برزتْ في برنامج ندوات الجنادرية 25، إرادة واضحة إلى إعلان الهموم الثقافية الحضارية المحلية والعربية في إطار يجاوز المحلية والقومية إلى السياق العالمي والكوني. وهذه خطوة عملية واضحة لتحرير تلك الهموم من شرنقتها الضيقة، وتحرير الثقافة والفكر، ضمنياً، بحيث نجاوز حالة الاحتقان في الذات التي تبدو عرضاً -ربما- للارتياب والخشية وهاجس القصور، ونفهم العالم الذي لن نفهم ذاتنا بمعزل عنه. والنتيجة بالضرورة هي توسيع مفهومنا للزمن الثقافي والحضاري وهو دوماً قرين الوعي بالمكان والفهم له.
ولم يكن هذا جديداً بالكُلِّية على الجنادرية، فقد دَرَجَتْ دوراتها السابقة، على هذا الطموح، وما يزال حضور بعض الشخصيات الفكرية العالمية إلى الجنادرية في دوراتها السابقة حاضراً في الذهن، خصوصاً صموئيل هنتجتون، صاحب نظرية صراع الحضارات التي ضاعفت الشعور بالتآمر والعداء في الحس العربي والإسلامي، وأكدت من بعض الوجوه المعنى الاستعماري والاستشراقي في وجهة الغرب تجاه الوجود العربي والإسلامي وقضاياه.
وأعتقد أن الجنادرية هذا العام قد أعادت إلينا الحس القديم الذي توهجت به، سواء من حيث موضوعات الندوات الكبرى فيها، أم عدد الضيوف الذين وصلوا إلى 400ضيف. ولا يهمني من الموضوعات هنا إلا جوهريتها في الوعي الثقافي الإنساني، وتصدُّرُها في لحظتنا التاريخية على غيرها من الموضوعات. وبالطبع فإن هذه الجوهرية أو الأهمية الزمنية يمكن أن تكون مثار اختلاف بسبب منظورها الذي يأخذ حُكْمه من طبيعة الناظر نفسه، وهو ناظر من موقع وبزاوية نظر معينة، ولهذا تحديداً نجحت الجنادرية إجمالاً في الموضوعات لأنها نظرت إليها من زاوية نظر أكثر اتساعاً وأدل على الشمول وأقرب إلى نبض الراهن.
كما نجحت إلى حد كبير في تنويع ضيوف المهرجان، وبروز طَيْف التعدد، وبالقدر نفسه تماماً بروز الأهمية الفكرية للضيوف المتعلقة بهم على مستوى فرديتهم وعلى مستوى خصائص ومواصفات فكرهم. وهذه الأهمية هي الأخرى مثار اختلاف بسبب التقويم الذي لا ينفك عن الموقف والانتماء، وهو ما استطاعت الجنادرية أن تجاوز به إلى موقف موضوعي غالباً. فكانت أكثر ندواتها ثرية بالجدل، وغنية بالتنوع، ورحبة بالموضوعية، وكان موقف النظر والتحليل والتقويم على درجة واضحة من تمثُّل المسؤولية التي هي قرين الاستقلالية والحرية في التفكير وفي التعبير.
كان الحوار هو الموضوع المركزي للمهرجان، وهو موضوع مهم من حيث جوهريته التي تحيله إلى نواة للثقافة في مستوياتها الوطنية والإنسانية، وللعلاقات الاجتماعية والدولية. ومن حيث نتائجه ومتعلقاته التي تصل بين قطبي الأصدقاء وبين قطبي الأعداء، وصل البناء لا الهدم، والسلام لا الحرب، والتعاون والتفاهم وتبادل المنافع وحل المشكلات لا الأنانية والعمى والتخندق في متاريس الذات. وتتأكد أهمية الحوار من تصدره في لحظتنا الراهنة على غيره من الموضوعات، لأننا في زمن أكثر إلحاحاً على الوعي بالمعنى الإنساني بقدر ما هو أكثر إلحاحاً بمعاني الكراهية والتعصب والعنصرية والتطرف والعدوان.
وهكذا يبدو الحوار قضية إشكالية، فهو ليس تعليمات مجردة، أو أفكاراً عارية من شروط الصراع الذي يتنزل من الواقعة البشرية منزلة القانون التاريخي. ولهذا تكرَّر على لسان أكثر من متحدث وبتعبيرات مختلفة ما قاله الوزير اللبناني غازي العريضي: (الحوار ليس ترفاً، هو مهمة صعبة)! وكان سؤال أبو يعرب المرزوقي جارحاً، حين قال: (ما الذي يجعل النخب العربية الإسلامية تريد الحوار والغرب يتمنع؟!) وهو المعنى الذي قاد الشيخ سلمان العودة إلى التأكيد على ما يراه معوّقاً للحوار وهو (ثنائية الضعف والقوة). وهذا منطق لا يدين الغرب أكثر من إدانته للذات العربية والإسلامية.
وقد كانت (رؤية الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار والسلام وقبول الآخر) عنوان أولى ندوات الجنادرية وأهمها. والدواعي الموضوعية والظرفية لها بارزة في ما أولاه الملك عبد الله من أهمية وما قاده من مبادرات ومشروعات ذات دلالات نقدية وإصلاحية تؤهلها للنقاش والتحليل بأعمق دلالة علمية ومعرفية. وكم كنت طَرِباً وأنا أستمع إلى تركي الحمد وهو يحيل مداخلته إلى مرافعة عن الإسلام الذي امتُحِن بتفسيرات المتطرفين الضيِّقة وإلباسهم لرؤاهم البشرية المحدودة ثوب القداسة. كما كنت متعجباً وأنا أستمع إلى بلال الحسن وهو يروي تاريخ الجنادرية من خلال العلاقة مع المثقف السعودي الذي كان يواجه المثقفين الضيوف بالتوجس والارتياب والمقاطعة!
أما موضوع (السلفية) الذي تناولته ندوتان، فقد كان دليلاً أكثر وضوحاً على الموضوعية وإرادة التحرير للمفاهيم والقضايا الذاتية بإطلاقها في مدار العموم، وهو مدار نقدي وحواري يصنعه اختلاف المنتدين حولها لا توافقهم. ولذلك قال محمد حبش: (إن أكبر التحولات السلفية، هو طرح هذا المو ضوع على طاولة النقاش بشكل واضح)!. وعاودني هنا الطرب نفسه الذي استشعره دوماً أمام الفكر الذي يضيف بجرأته واستيعابه إلى وعينا بالموضوعات، حين أخذ المفكر السعودي عبد الله البريدي، الممتلئ شباباً وأصالة، ينتقد ما تحفل به السلفية من تشدد فقهي، وادعاء بإفراط للمثالية، وتزكية للنفس، وما تُجَسِّده من فشل في التصالح مع الدولة الحديثة، ثم تنبيهه إلى أن الإسلام أكبر منها.
ويمكن أن نلحظ الأهمية والشمول والإطار العالمي، في الموضوع الاقتصادي التي تناول الأزمة المالية العالمية، وموضوع الإعلام الذي اتخذ من العلاقة بين الإعلام السياسي والحرية، من جهة، والإعلام الإلكتروني وقضايا الجيل، من جهة أخرى، مدار ندوتين، وهذه الموضوعات هي محلية في الصميم بقدر ما هي عالمية. كما نلحظ، ونحن نتأمل عناوينها، الأمر نفسه الذي نجده في عناوين ندوات الحوار ومعوقاته ورؤاه، وعنوان ندوة السلفية: مفهومها وتحولاتها، أننا أمام قضايا ذات حرارة ومسافة إشكالية، ومن ثم إثارة للجدل والاختلاف الذي يليق حقاً بمحفل عالمي.
لكن الموضوع الأدبي وحده، وهو (الرواية السعودية: قراءة ومقاربات)، كان شاذاً عن ذلك كله، فقد كان موضوعاً محلياً صرفاً، وكان بطابع سكوني ولم يكن قضية تستدعي وجهات نظر مختلفة. ولهذا كان المتابعون، كما المتحدثون أنفسهم، أمام طروحات مشتتة لا يجمعها سبب إلا الرواية السعودية! وماذا تعني الرواية السعودية بمعزل عن الرواية العربية والعالمية؟ هل هي نوع مختلف؟ قاصرة أم فائقة إلى الحد الذي يستدعي قَصْر الحديث عليها؟! أمَّا الجانب الذي لا تخطئه العين في المشاركين في هذا الموضوع وقد ناهزو العشرين، فهو تحاشي مشاركة أي ناقد من كلية الآداب بجامعة الملك سعود، وهذا يطرح سؤالاً بحجم عراقة هذه المؤسسة الأكاديمية، واكتنازها بالطاقات، على المنسقين لهذا الموضوع، والمخطِّطين له؟!
ولن يكتمل الحديث عن الجنادرية 25، من دون أن نتطرق إلى حدث جديد فيها يؤسس لمزيد من عالميتها، وهو إعلان جائزة الملك عبد الله العالمية للتراث والثقافة. إنه حدث دال على وجهة الوعي الإنساني لدى الملك عبد الله، فالجائزة عالمية، وهي في حقلي التراث والثقافة، والصفة الأولى تعني المزيد من اضطلاع المملكة بمهام عالمية هي كِفْءُ ثِقَلِها وأهميتها التي يريد قائدها لها أن تُرسِّخها وأن تواصل أداءها والاتصاف بها، وهذا استمرار وليس ابتداء، فحوار الثقافات والأديان العالمي الذي قاده حفظه الله، وجائزة الترجمة، والحوار الوطني... إلخ تصب في هذا المسار.
أما اختصاصها بالتراث والثقافة، فيعني رؤية جوهرية للإنسان، ووعياً حقيقياً به. فالتراث هو العمق الكامن والأصيل للهوية التي تصل في أعماقها بين بني البشر، والثقافة وعي التوازن والانسجام الذي يعادل به الإنسان الثقل المادي للوجود وثقل النمط والإلف والاعتياد، وهما ثقلان يبهظان الكينونة الإنسانية ويشيِّئانها، فتفتقد الرغبة التي ترفعها في سماء الاختيار، وتنأى عما يتجدد به الوجود وتُشْرِق البصيرة.
وقد كان ربطها بمهرجان الجنادرية المعنِي أساساً بالتراث والثقافة، دالاً بأكثر من معنى. فالجنادرية أفق للتَّأكيد على وحدتنا الوطنية، وهي إشهاد عالمي بمن تجمعهم من الضيوف المثقفين والمفكرين من أنحاء العالم، على هذه الوحدة. وليس هناك وحدة من غير جَمْع للمختلف والمتعدد وهو أجزاء هذا الوطن الحبيب الذي أصبح واحداً، وهذا نموذج للمعنى الإنساني الثقافي العالمي، الذي يترامى إلى طموح الوحدة من وراء الاختلاف والتعدد.
وأتصور أن الجائزة هكذا ستجعل من الجنادرية مهرجاناً عالمياً فعلاً بقدر ما هو مهرجان وطني. كما ستضيف إلينا ما يعمِّق من وعينا بالثقافة والمعرفة والتراث، وما يؤكد حقيقتنا التي تباين ما عانيناه من اختزال بلادنا في معان غير ثقافية.
الرياض