لكل منا مدارسه التي علّمته كيف يكون كما هو الآن، ولي مدرستان أعتزُّ بهما حدَّ التباهي!
إحداهما قصيدة، والأخرى قصيدة!
أمّا القصيدة الأولى، أو المدرسة الكبرى التي تعلّمتُ منها ما لم أتعلمه في كلّ مدرسةٍ عرفتها بعد أمّي التي رحلتْ قبل اكتمال نموّي (رحمة الله عليها) فهي لاميّة العرب للشنفرى..
وقد تكلمتُ عن لامية الشنفرى في أكثر من موضع، وذكرتُ بدءَ علاقتي بأحد أبياتها في إحدى صفحات (سيف بن أعطى) حين كنتُ (أستفُّ تُربَ الأرضِ..) طفلاً ضائعاً..
كذلك افتتحتُ ديوان (آتٍ من الوادي) الصادر عام 2003 بقصيدة (وإني كفاني) المكتوبة مقاربة - ولا أقول معارضة - لبيتين من اللامية:
وإني كفاني فقدَ من ليس جازياً
بحُسنى، ولا في قربهِ متعلَّلُ
ثلاثةُ أصحابٍ: فؤادٌ مشيَّعٌ
وأبيضُ إصليتٌ وصفراءُ عيطلُ
قصيدةٌ كهذه جديرة بأن أتعلم منها كيف أكون ممتلئاً صلابةً حتى في أشد حالات الانكسار.. فسيرة الشنفرى ولاميته كانت - ولا تزال - تدعمني في أصعب الظروف، وتحت أحرق الظهيرات وأحلك الليالي..!
ويكفي (لامية العرب) القول المنسوب لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه: (علّموا أولادكم لامية العرب، فإنها تحضّ على مكارم الأخلاق).
أمّا المدرسة الثانية، أو القصيدة الأخرى (المدرسة) فهي سباعية (أو فائية) الإمام الشافعي، مجدد الإسلام في القرن الهجريّ الثاني..
وهي القصيدة التي أعود إليها كلّما تعرّضتُ لصدمةٍ من صديقٍ أو حبيب (وما أكثرها صدماتٍ من أحبة وأصدقاء في حياة كلّ منا) لذا رأيتُ أن أذكِّر بها كلَّ مُحبطٍ أو محزون؛ ولا بدّ من استعادة القصيدة كاملة، فهي كحبة العلاج (الكبسولة) لا تؤخذ إلاّ كاملة، فأيّ نقصٍ أو اختصار منها قد يبطل مفعولها!
فالقصيدة كما قرأتها (مبروزة) فحفظتها، منذ اكتشفتُ القراءة والشعر:
إذا المرءُ لا يرعاكَ إلاّ تكلُّفا
فدعه ولا تكثر عليه التأسُّفا
ففي الناس أبدالٌ وفي الترك راحةٌ
وفي القلب صبرٌ للحبيب ولو جفا
فما كلّ من تهواه يهواكَ قلبُه
ولا كلّ من صافيته لكَ قد صفا
إذا لم يكن صفوُ الودادِ طبيعةً
فلا خيرَ في ودٍّ يجئُ تكلُّفا
ولا خيرَ في خلٍّ يخونُ خليلَهُ
ويلقاهُ من بعد المودةِ بالجَفا
وينكرُ عيشاً قد تقادم عهدُهُ
ويظهر سرّاً كان بالأمس قد خفا
سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها
صديقٌ صدوقٌ صادقُ الوعدِ مُنصِفا
وفي كلّ مرّة أستعيد فيها هذه القصيدة أتوقف طويلاً عن البيت السادس (قبل الأخير) متسائلاً: كيف لإنسان ألاّ ينكر عيشاً، وفي الوقت نفسه لا يظهرُ سرّاً؟!
فإن أنكر فلا خير فيه، وإن أظهر فلا خير فيه!
وهل ثمة مسافات تفصل بين (العيش) و (السرّ)؟؟
هل يوجد في زماننا من يقول لك إنه يعرف فلاناً وبينهما (عيشٌ قد تقادم عهده) ثم لا يسترسل فيبوح لك: ولكنّ مشكلته كذا وعيبه كذا (ويظهر سرّاً كان بالأمس قد خفا)؟!
كذلك أتوقفُ عند البيت الذي يسبقه (أي الخامس) وأتساءل: هل الملاقاةُ بجفاءٍ من بعد مودةٍ تعتبر خيانةً؟!
أمّا عن تكرار كلمة (تكلُّفا) في صدر البيت الأول وعجز البيت الرابع، فإن كان باعثه التكلُّفُ في النظم أساساً.. فعندي أنه لا يُخرج القصيدة من دائرة الشعر، إنما يُخرج التكلُّف من هاوية اللا شعر!
فمعظم النقاد، وهم ليسوا بشعراء، يتشدقون بمقولاتٍ تناقلوها عن بعض.. تفيدهم - وحدهم لا غير - بأن الشعر المتكلّف (بمعنى المصنوع صناعةً عقليةً بكامل الوعي) هو مجرّد نظم، وأن النظم ليس بشعر!
أقول، عن قصيدة الشافعيّ، اعترافاً بأنّ الصنعة لا تنتقص من حقيقة الشعر:
إنها قصيدة عميقة وتثير كثيراً من الأسئلة، وليست كما يراها البعض مجرد قصيدة وعظية تؤخذ كلافتةٍ أو شعار.. بل أراها تستحقّ دراساتٍ مطوّلةً تستكشف كل أبعادها ومعانيها وإحالاتها وإشاراتها المتطوّرة والمواكبة لكلّ العصور. ولقد تذكرتها وأنا أطالع مبتسماً رسائل عدد من القارئات والقراء وصلت إلى بريدي الإلكتروني، حول مقالاتي الأخيرة المنشورة هنا؛ غير أن مقالة (الصمت القاتل) المنشورة في العدد 300 من (الثقافية) كانت محور رسائل كثيرة تتساءل عن أسباب خوضي في مسألة لم أكن معنياً بها في كتاباتي (كالحب، والصمت المؤدي إلى الموت الدراميّ..) وكانت ابتسامتي أعرضَ وأنا أقرأ مقالة الأستاذ منصور المشوح المنشورة في العدد 302 من الثقافية تعقيباً على المقالة نفسها (الصمتُ القاتل) فقد افتتح المشوح مقالته بهذه العبارة:
(لا أحد يعرف ما مدى المعاناة التي تثقل كاهل الشاعر السعودي فيصل أكرم..) ثم راح يتساءل إن كنتُ (أعشق) أو (لا أعشق) حتى كتبتُ عن الموت انتحاراً بسبب (الصمت القاتل)؟!
الواقع أنني لا أحبذ لفظ (العشق) كمعنى، كونه لا يمثل سوى مجرد مرحلة عابرة من مراحل (الحبّ) الذي به أبدأ وأنتهي..
وأظنني الآن، بهذه المقالة، قد أجبتُ (ثقافياً) عن كل ما استطعتُ استيعاب فحواه من تلك الأسئلة، وسأضيف: مثلي لا تخلو مدارسه من الأمثلة، ولا تنأى استشهاداته عن شواهده.. طالما أنّ (ففي الناس أبدالٌ) كانت من أولى المحفوظات في الذاكرة..!
f-a-akram@maktoob.com
بيروت