الفرق بين العبارتين اللتين ذكرتا في العنوان: الصبغة الذاتية والصورة الفوتوغرافية كالفرق تماماً بين جمال عبدالناصر، وتمثال جمال عبدالناصر.. أو بين جمال عبدالناصر نفسه وسائق التاكسي الذي سيسرد لك أجزاءً من خِطاب جمال عبدالناصر!
أذكر هذا الكلام حين أجد نفسي أحياناً وسط محاضرة طويلة مملة يكتفي المحاضر فيها بسرد بضع أطنان من المعلومات على رؤوسنا..!
و حين أشعر بالتململ وأرى أنني وسط سيل من المعلومات المجردة- الصورة الفوتوغرافية،
أسرح بفكري بعيداً فأتذكر قصة الدكتور عبد الوهاب المسيري حين جلس في محاضرة كان محاضرها شبيهاً بمحاضري هذا في "موضوعيته المُدعاة"، وشعر الدكتور عبد الوهاب بهذا التململ فقال: يا دكتور أنت لم تقل لنا شيئاً، وقذفتنا بالمعلومات دون أن يربطها رابط "فأجاب المحاضر: أردت أن أكون موضوعياً..!
فقال الدكتور عبد الوهاب: يا ليتك كنت أكثر ذاتية وقلت لنا شيئاً غير أطنان المعلومات"
أفرق دائماً بين ما نقرأه ونسمعه.. ثم نقوله.. وبين ما نقرأ ونسمع، ثم نمرره على عقولنا فنفكر ونحلل، ثم نصبغه بصبغتنا الذاتية، ثم نقوله..
عمل العقل في الأول يشبه الثلاجة التي تحفظ اللحوم، ثم تخرجها..
أو ربما زُجاجة عصير تفاح (أو بايسون أو بيرة أو ويسكي!) توضع في مكان مبرد حتى يأتي من يفتحها فيشرب (أو يسكر!)..
أما الثانية.. فهو ببساطة، عمل العقل على أنه عقل..!
أتذكر جيداً حين أتممت عشرين سنة من عمري، وقررت حينها أن أقلل من الوقت الذي أقضيه مع أحد أساتذتي، وحينها لامني العديد من الأصدقاء لأن ذلك الأستاذ (مليء ومثقف الخ الخ..)، قلت لهم ببساطة أنني لم أجالسه في يوم من الأيام!
لقد كنت أجالس أولئك الذين يجالسهم هو!
بعض الناس - كما يقول علي عزت بيجوفتش - يمتلك قطع غير جاهزة وغير ناضجة من كلام هيجل ونيتشه وفرويد والآخرين، فعلاً.. يكفي أن تدعه يتكلم لتتناثر تلك القطع من غيرما رابط واضح!
و المفكر العظيم، سيربط لك أفكاره بسلاسة، بخيطٍ رفيعٍ غيرِ مرئي!
سيتكلم عن المجتمع التراحمي عند المسيري، بينما يستدل بأظهرة النصر عبده برناوي وماجد هزازي!
جدة
hmzmz@hotmail.com