ما مهمة دور النشر؟ أهي التجارة أم - كما نحسن الظن - رسالة؟ هل الهدف نشر العلم ورعاية الفن أم ملاحقة الريال والدولار؟ منذ متى لم نسمع بدار نشر رعت مبدعاً أو مؤلفاً في كتاب؟ منذ كم والمبدع القادر يطبع على نفقته وغير القادر يضيع جهده ولا حياة لمن تنادي؟
القضية واضحة المعالم لا تحتاج إلى شرح ولا يعوزها تفسير؛ فدور النشر لدينا أمست محال تجارية كتموينات وبوفيه بل كمقهى.. لا فرق بينها؛ فكلها تلهث خلف الربح ولا شيء غيره، لكن كل منها بطريقته يلهث.
يهمني فقط أن يكفوا عن الادعاء المقيت بخدمة العلم في الكتب العلمية والفن في الإبداعات الأدبية ولهم أن يلهثوا كيف شاءوا وأنى أرادوا.
إن استضيف أحدهم في وسيلة إعلامية لم يكف عن الحديث عن إنجازه الجبار في رعاية المبدعين والمؤلفين، مؤكداً غير مرة أنه لا يستفيد شيئاً، وأن همه الأول والأخير مساعدة أولئك للوصول لجمهورهم.. هذا ما يقوله هو؛ فما الذي يحدث؟
ما يحدث أنه وقبل رد السلام أحياناً يخبرك بتكلفة إنتاجك الجديد وبنسبته من المال الذي ستدفع ولا يهمه إن كان عملك جليلاً أم حقيراً بل ربما لا يدري أصلاً عما كتب أشعر هو أم نثر؟ أعلم أم فن؟ وتلك النسبة المحددة سلفاً - كما يقولون - تختلف في الواقع بحسب حجم الإصدار أكبير أم صغير؟ أطويل أم قصير؟
مللنا - والله - تلك الأسطوانة المشروخة التي تروج لكذبة دفع ثمنها مبدعونا الجدد؛ حتى يكتسبوا الخبرة؛ فهم ضحايا الإصدار الأول وربما الثاني والثالث.
قبل مدة وجيزة أنهى الدكتور فواز اللعبون كتابه (فائت الأمثال)، وهو مقاربة أدبية ساخرة، وفواز شاعر معروف على مستوى الساحة السعودية، وقرر فواز أن يبحث لكتابه عن دار تتبناه وهكذا كان؛ فذهب مصحوباً بالتفاؤل مملوءاً بنشوة إنهاء إصداره، وكانت الصدمة أنه لم يجد داراً تتبنى جهده، وكان الرد: نحن ننشر لأسماء تشكل علامات تجارية لنضمن البيع ولكنك أنت لست منهم.
لا يعنيني أمن حقهم أن يفعلوا هذا أم لا، ولكن أين الادعاء الدائم بخدمة الأدب؟!
في إصدار فواز أمثال مستخلصة من الحياة ومن تجاربنا اليومية وشملت ثلاثين مثلاً وثلاثين قصيدة بأبيات عدتها ثلاثمائة وخمسة وستون بيتاً، وقد تفاوتت الأمثال طولاً وقصراً بحسب سعة أخبارها، وهذا جهد يستحق الاهتمام شعراً ونثراً؛ فما كان مآله؟
لم يجد فواز داراً تحقق الادعاء؛ فلجأ إلى نشر إصداره عبر بوابة الإنترنت، وهنا حتماً سيسرق جهده وينسب إلى سواه، كما حصل مع كثير من المبدعين، منهم كاتب هذه السطور. يهمني مرة أخرى: أين مسوغ الادعاء؟
قبل مدة ليست قصيرة ألف أحد أصحابنا كتاباً يعد مرجعاً في تخصصه، ولما وصل إحدى دور النشر أخبروه بأن الكلفة في حدود ثلاثين ألفاً، وبعد أن استشار أولي الخبرة وأخبروه بأن المبلغ مبالغ فيه عاد وسأل فطبع إصداره باثنين وعشرين ألفاً.. ماذا عن الآلاف الثمانية الباقية؟!
وأصحاب الرسالة السامية لخدمة العلم والفن - كما زعموا - ينتهي جهدهم، بعد أخذ النسبة الخاصة بهم، وبعد الطباعة وخدمات ما بعد الطبع من النشر في المكتبات لا تكاد تجدها إلا عند بعض الدور الكبرى.. غريب!! أوليس اسم محلكم دار نشر أم هو مطبعة وحسب؟ ولن أعتذر عن تسمية مقركم (محلكم) فما هو إلا محل تجاري وحسب، وكأننا أمام محل ملابس يزعم أن هدفه كسوة الناس صيفاً وشتاءً ولا يهمه الربح، فهل سيصدقه أحد؟
عذراً أيها النبلاء.. لا نملك مسوغاً واحداً لتصديقكم.
لا يملك المرء إلا أن يحترم صاحب المقهى ومحل الملابس؛ فهو يرفع رايته مبكراً ليعلن أنه محل تجاري هدفه الربح، لكنه حتماً لن يملك الاحترام نفسه لمدّع يفقد مصالحته مع ذاته أولاً ناهيك عن الناس.
الرياض