عبدالله السميح
90 صفحة من القطع المتوسط
التدثر بالبياض خير من التدثر بالسواد.. في الحالة الأولى إشراقة أمل.. وفي الثانية إغراقة ألم.. العنوان وحده لا يكفي.. لا بد من الغوص في الأعماق كي نرى المحصلة.. كنز ثمين نحصل عليه من خلال المخزون الفكري.. أم سعي جهيد تخرج شباكه خاوية وخالية؟
أحسب أن الفأل أقرب إلى الحدس والتخمين.. وهذا ما سوف نكتشفه معا مع شاعرنا من خلال الرحلة في محيط الشعر.. (ترتيله لصباحات الرياض) ماذا قال فيها:
كلما ناغيت عينيك. وأضمرت الغناء
وتهامى عطركِ الفواح في بهو المساء
وعزفت الخطو يا فاتنتي
شامخ الموقع.. عريق الكبرياء
كلما لاح محياك.. وجاء الصبح مفتونا
وأهداك مقاليد الضياء
همهم الحرف.. فأشعلت الرؤى
في هزيج الشعر.. أبحر عن سفر اللغات..
هل وجدته شاعرنا..؟
إغراق في توظيف المفردات.. وفي توصيفها هي الشعر واللحن الخرافي حيث تختال القناديل وتخضل القوافي.. وحيث الشيح والقيصوم يتراقص ويغني أجمل الأمنيات.. وأعذب الأغنيات.. كل هذا مفرح.. ولكن ماذا بعد؟ هل إنها مجرد أمانٍ.. أم ماذا؟
جئت يا سيدتي منكسرا
اتملى فيك آمالي الطوال
فابتسمت. ثقة أن الضنى
منهى الصدق به أن لا يقال!
آه.. يا فارعة المجد.. ويا وهج الجمال..
ما بعد الآه مجرد انتظار.. لا نعرف له نهاية..
(توقيعات على اللحن القثيري) عنوان يقصد منه اللحن القيثاري نسبة إلى قيثارة الذي عمد إلى كسره.. وبعثرة أغانيه:
هكذا والشمس صكت وجهها
والمدى يهمي بماء حالك
قلت: مزقت ترانيمي
وكنت بشرفي الشعر ارتاد (الحمى)
لماذا كل هذا العنف والصلف يا شاعرنا..؟ القيثار قبرت نغمه بالتحطيم! الترانيم مزقتها.. ماذا أبقيت لديك من صوت جاذب غير التمني.. والتملي لجسد لغة عذراء لا تتحرك.. الليل وحده لا يشفع في لغة الحب في ظل صمت قلب اعتراه الهم فنام..
يبدو أن الفرج جاء من غير شاعرنا خطى محبوبته زينب كان لها الإيقاع في ظل صمته الذي استيقظ أخيرا.. وغنى لها أغنية اللقاء.
(بابها الموارب)
موارب بابها حزنا وقد هرمت
أطرافه. واختلى في صدره القلق
يبكي الأصيل إذا مرت نسائمه
حياليه. وبساقيه المضنى الشفق
يا له من باب مسكين يعيش على ذكريات صدى السنين..
ما زال يرقب خطو العابرين به
إذا رأى الشارع المكلوم يتدفق
ويسأل الظل عن أيام فاتنة
ما كان من بعدها في خطوة يثق
كانت تباكر هذا الباب تلبسه
من صبحها أملا بالغيث يندلق
لكنه الآن. والأحزان منزلها
يرنو. وأحلامه في صدره مزق
مسكين هذا الباب الذي يقتات على فتات ما تبقى من ذكريات
(السراب) نقلة جديدة مع شاعرنا عبدالله السميح:
نادى السراب فلبت كل بلقعة
ألوى بها الجدب واستشرى بها العدم
غنى الهباء على أصقاعها حقبا
وظل يختال فيه سيله العرم
وللهواجر فيها سطوة هزمت
إطلالة الماء أنى تهفو الديم
وددت لو استبدل مفردة (تهفو) ب(تهطل) لأنها الأنسب للمعنى ولإيقاع الشطر..
أوغل بنا في وصف المشهد.. حصى تبلد فيه الصمت لعوسجه.. وعجفاء توزع خيبتها على الآفاق من حولها.. يستبد به شبح الوهم أكثر وأكثر..
يا صانع الوهم كم أحجبتها سفها
وكم تباهت بما تستنه النقم
أملت أن نسلم الأيام رونقها
وان تضاحك فيك الشيب والهرم
ويستفيق أخيرا من لمعان سرابه الخادع.. يصحو إلى نفسه:
يا صانع الوهم ما درب يضيق بنا
إلا وتعبره الآمال والهمم
سنسكب النور في عين الدجى ولنا
حصن النهار إذا ما اشتطت الظلم
حساً جاءت القفلة بعد أن أخذتنا الغفلة السرابية وكدنا جميعا نموت ظمأ.. ما برحت نعيش رحلة الظمأ.. بعد السراب ونهايته المفرحة اشتط بنا السير مدفوعين بحلم الورد.. وأمل الماء..
خالف الركب. وأخلى زمنه
ومضى في التيه يطوي شجنه
ضاربا في فلوات أججت
همه النائي.. وغنت محنه
يتهجى حلم الماء الذي
كلما لاح هجيرا أثخنه!
لم يزل يقفو غيابات السرى
وينادي في الدروب الموهنه
(غيابات السرى) صحيحة.. إلا أن الأكثر توفيقا منها (بغابات السرى)..
بعد هذا العناء المضني بحثا عن ماء يطالب حلمه بالرحيل دون غناء..
فترحل أن هذا زمن
حامل فيه المغني كفنه
لماذا المغني وحده..؟ كلنا نحن أكفاننا ونحن نعب من الماء وما هو أشهى من الماء.. الكفن رداء ما بعد النهاية.
شعر.. وشاعره التقيا على عتب:
قالت: لماذا تخفى كل شاردة
تنثال عطرا. وتردي مهجي أملا
أسرفت في كبت هذا النور أزمنة
وللمساء يرا يد تعزف الخجلا
هذي السحائب رغم الحزن تمنحني
صبحا بأعماق روحي يوقظه الجدلا
لكن صوتك. والأوهام عاصفة
في غابة الصمت مهما انهل لن يصلا
بهذا الجواب القاطع لن نتطلع إلى الرد مهما كان ذكيا، وشقيا فأبواب قلبها موصدة لا أمل في فتحها.. حين تحضرين ينبجس الضوء:
اتوق لصوتك كل صباح
يتسلل كالضوء في قلعة الاختناق
فيلمحني غارقا في الضجر
ويمد إلي يد الانعتاق..
ويأخذني بعيدا على صهوة الانشراح
وهناك يعلمني وشوشات الزهور وهمس المطر
المطر يا صديقي لدقاته صوت.. حسنا لو قلت (ووقع المطر) هذه المرة انتهت على خير فلا سراب. ولا غابات. ولا وهم.. كسبنا الجولة..
(انكفاء) عنوان جديد.. وشعر جيد:
رب يوم يؤوب فيه القصيد
ويزف الربيعَ شعرٌ جديد
سامق كالنهار يمتد زهوا
تتغنى به الربى والنجود
حين تأتين كانبثاق الأماني
كابتهاج الغريب حين يعود
كرفيف السنا، كنفخ الخزامى
وبعينيك تشتكي الوعود
لم يكمل لنا شاعرنا الفرحة استكثرها على رفاقه وصحبة دربه:
إنما المكان والليالي فراغ
خالق والدجى قوي عنيد
والاغاريد تمتات احتضار
والرؤى الزهر يستقيها الجمود
لوطنه المخبوء على داخله غنى:
تسامى عن التشييب والعشق شاعر
تنحت فيه عن ربع (ليلى) مطامحه
اذا ما تراءت في لياليه متعة
أبانت رداها عفة لا تسامحه
تخاله (نجد) على الشوق والنوى
وتفتر عنها كل يوم ملامحه
وللوطن المخبوء في عمق نبضه
غداة التنائي لهفة لا تبارحه
يشيعه زخم من العلم والحجى
ويحفزه من مطلع الفجر واضحه..
(ربما) وتداعياتها في ثقافة شاعرنا السميح:
كل شيء يجوز في زمن البؤ
س، فسحق من الغبي الغباء!
ربما حرك الغبار عشيا
ملئه الفخر.. ملئه الخيلاء..!
أحب أن مفردة (ملئه) التي وردت في الشطر الأخير مرفوعة بالضم على الواو.. أي (ملؤه)..
ربما جاءك الصباح بهيا
فرنت مه نحوك الظلماء!
فلمحت الوجوه وهي انكسار
وشهدت الرؤوس وهي انحناء!
ورأيت الرصيف ينقل النا
س. ويدعو إلى الوراء الوراء
والمدى غابة تمور هباء
ويغني بجانبيها الهواء!
يتمنى الغريب فيها طريقا
ودروب الضياع فيها سواء!
تأملات.. وتجليات دارت في خلد شاعرنا تحمل (ربما).. وربما أيضا في خواطر غيره.. الحياة مسرح تساؤلات..
(أضواء. وأشلاء) عنوان يجمع في وجهيه الأنس. والبؤس.. كيف تتفقان؟!
قوافل الحزن في عينيك يا (أمل)
دلائل التيه. والأرزاء تنهمل
يا للعيون التي غنى المساء لها
إذ أصبحت بسواد الليل تكتحل
لما رأت زمنا يمتص في صلف
دمع الثكالى.. وبالأحلام ينتعل
رأت فضاء تحوم الموبقات به
ليلا. ويلهث في أجوائه الوحل
دما يفوح واشلاء تتوق إلى
يدل تلملمها. والموت يحتفل
وفوق مسرحها تختال راقصة
تهز أعطافها فحشا. ولا خجل
ترتد عن صدرها الأضواء لاعنة
صناعة العهر حيث الحسن يبذل
وجه يتشكل في عالم عملته حب وحرب خير وشر، فضيلة ورذيلة.. طهر وعهر.. هكذا تبدو المشهد منذ القديم القديم انتصار واحتقار..
وللنزق في تجارب حياته مرارة لم يستطع كتمانها:
هل تعلمين لماذا كنت محتدما
ضيقا وفي شفتي النار تنهمر
وكيف أمست قناديل الهوى مزقا
دينها رفرفات الشوق تنتحر
وكيف في لحظة بالحب وادعة
كل الهنيهات ذات الصفو تنفجر
مجموعة استفهامات تعوزها علامات استفهام (؟. ؟. ؟)
لأن عينيك لم تدرك براءتها
تميز الحر غيضا حين ينكسر
والجدب يقحمه في كل مهلكة
وساري البرق لا صحو ولا مطر
كم شام برقا بحسن الظن أمله
حتى رأى حاسب الإملاق ينتثر
وجه آخر للسراب يجذب نحوه العطشى فيزيد من عطشهم.. آه ما أبشع أن يأتي حلمك للأشياء مجرد وهم تصطدم به على أرضية الواقع.
(معزوفة البكاء في أعياء الميلاد)..
كان يمشي مكبا على حزنه
تشربله موشحات الهموم
سائراً موغلا في قفار الشجن
تحف به رفرفات الحنين. وتنهشه الغربة القاتلة
إلى أين وصلت به الوحشة. والوحدة؟
حينما أشتم في لحظة عابرة
عبقا قادما من تراب الوطن
فظل يجوس بآلامه خلال المكان
يتفرس في أوجه العابرين
وتمرض عن وجهه السابلة
كل هذا السرد مجرد مدخل لمعزوفة بكائه في عيد مولد.. قدماه أجهدتا وهو يجرجر خطواته كمن يبحث عن شيء ضائع حين جاءت إليه فتاة المحل وهي تسأله:
(أي شيء يفضله للغداء)؟
لم ينحبس ببنت شفة.. كان منهمكا يغالب شوقه للبعيد.. لأسرته التي تنتظر عيدها بعودته إليها..
عندما قرأت عيناه فجأة ما على الطاولة
(لك عام سعيد)!
اغرورقت عيناه بالدموع.. كان يرى أحرف بطاقة التهنئة المنصوبة على طاولة غدائه نتفا من الضباب.. لم يكن مدركا أنها كتبت فوق كشف حساب غدائه.. العيد في البعيد مجرد ذكرى لذاكرة الهجر والاغتراب لا ترسم فرحة لشفة ولا خفقة لقلب إنها أشبه بالثوب المستعار لا يستر.. (شوارع القدس. ونبضنا الباقي) حسنا أن رصد لنا ولو موقفا واحدا يتحدث عن واقع مدين مقدسة هي القدس. بمسجدها.. بصخرتها. وبأهلها الذين تسكنهم الغربة رغم أنهم داخل مدينتهم.. يوم أن تحدث عنها كانت بارقة الأمل تومض في سماء العرب واعدة بالنصر لا بالقهر..
غيم على القدس مذ لاحت بوادره
والحق يعصف بالاستار والحجب
ويهتك الستر عن عورات من سوروا
في غيهم واحتموا بالشك والريب
برق على القدس جلى كل داجية
من الهوان. وأحيا ثورة الغضب
شوارع القدس نبض ليس يوقفه
لغو المرابين من عجم ومن عرب
إلى أن يقول بلغة الحالم:
تجلت الأرض ذات الطهر فامتشقت
سيف الجهاد بإيمان وعزم نبي
تشربت بدم الأحرار فانبجست
بالنار في وجه أفاك ومغتصب
تلفت الحجر القدسي فانبعثت
اشعة النصر من تلٍّ. وكف صبي
يشير إلى انتفاضة القدس التي خمد اوراها.. وانطفأت نارها.. إلى الثورة التي تحولت إلى بقرة تنهش بعضها من بعضها ومن أهلها وأقرب المقربين إليها.. القدس يا شاعرنا تطوقها المستعمرات من كل جانب.. والحرم القدسي أخشى أن يتحول إلى حائط مبكى نذرف تجاهه دموعنا عن بعد..
أخيرا.. مع هذه المقاطع من قصيدته (الباطل).. كم تمنيت أن تكون قصيدة لبطل وليس لباطل.. ما أحوجنا إلى الأبطال في زمن الهزيمة:
لقد هان قدر المجد إذ صار مطلبا
تمطى له وهنا رقاب الأراذل
سدى نتساقى الصبر في كل بلقع
ونحدد رؤانا في ظلام المجاهل
وقلنا انتجعنا النجم عن كل موقع
وخيم يناجي وحله وجه سافل
وجدنا السهى كالسفح يحتاج ضوءه
بغاث الدياجي بين قدم وواغل
مع هذا يا شاعرنا عبدالله السميح أمتنا لم تمت.. رحم حياتها أرحم من أن نفقد الأمل.. الحق لابد وأن ينتصر مهما طال الزمن.. وساد ليل الظلام.. والظلم.. وبعد وقد استغرقنا سويا ديوانك متدثر بالبياض.. أحسب دثاره كحليا ورماديا باستثناء بقع بيضاء قليلة.. الذنب ليس ذنب شعرك ولا مشاعرك كلها جميلة وجديرة بالإشادة.. الذنب ذنب اختيارك لعنوان ديوانك.. أنه في واد ومضمونه في واد آخر كل يتحدث عن السراب. والهم.. والبقيعة والفجيعة. والحب الذي لا يكتمل والحلم الذي يضيع.
أشكرك.. وأقدر لك الجهد في محتواه.. وإلى لقاء متجدد إن كان في العمر بقية.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338