قرأتُ ما كتبه أستاذي أ.د. أبو أوس إبراهيم الشمسان في مقاله المنشور في (الثقافية) عدد الإثنين 15-1-1430ه تعقيبًا على مقالي المنشور في (الثقافية) عدد الإثنين 8-1-1430? وسُرِرْتُ بعنوانه الظريف. والحقيقة أنّي لا أرغبُ هنا في أنْ أعود إلى جزئيات وردت في أحد المقالين، بل أحاول أن أدفع بالنقاش إلى فضاء أظنه أوسع إنْ أذنَ أستاذي.
في فجر الدراسة اللغوية للعربية كان دارسو العربية يباشرون النظر في اللغة نفسها، ويخرجون بنتائج نظرهم، ويدونون تلك النتائج، وكان من بين الدارسين من يهتمُّ بدراسة نحو اللغة (نظامها التركيبيّ) وهم من عُرِفوا بالنحاة. ومن خلال الوثائق التي بين أيدينا المتضمنة نتائج عمل أولئك النحاة (مثل: كتاب سيبويه، ومعاني القرآن للفراء) يتبيَّنُ أنَّهم كانوا يُحاولون الكشفَ عن النظام التركيبيّ الموجود في اللغة، وأنّ معظمهم لم يقِفوا عند وصف الظاهرة التركيبية أثناء دراستهم، بل تجاوزوا ذلك إلى محاولة تفسيرها والتعليل لها، وكانوا يعتمدون في تفسيراتهم وتعليلاتهم على مبادئ نظرية يُصرَّحُ بها أحيانًا، ويُسكتُ عنها أحيانًا، ويُمكنُ لدارسِ ما أنتجه النحاة أن يستنبط المبادئ النظرية المسكوت عنها من إجراءاتهم أثناء التحليل. والخلاصة هنا أنَّ نحاة البصرة كانوا ينطلقون من مبادئ نظرية يشاركهم نحاةُ الكوفة في بعضها ويختلفون عنهم في بعضها، وأنَّ نحاة البصرة والكوفة معًا كانوا يتجهون إلى اللغة في بحثهم وتحليلهم. وأزعمُ أنَّ النظرية النحوية العربية التي انطلق منها النحاة لم يُكشَف عن كل جوانبها حتى هذا اليوم.
وبعدَ ذلك الفجر انصرف معظمُ النحاةِ بالنحو عن دراسة النظام التركيبي للغة إلى إرث النحاة الأوائل بشرح مؤلّفاتهم، أو بتعليم النتائج التي توصَّلوا إليها، وكثُرَ التأليف في النحو، لكنَّه - على حدّ علمي - كان تأليفًا ينطلقُ من النتائج التي توصَّل إليها النحاة الأوائل لا من اللغة نفسها، ويقفُ عند تلك النتائج، وقد أدى هذا إلى جمود النظرية العربية في دراسة النظام التركيبيّ للغة. وانصرافُ بعض النحاة إلى المنطق في التعليل لبعض الظواهر التركيبية في اللغة ربما كان أحد الأدلة الكبرى على توقُّف النظرية النحوية العربية عند ما أنتجه النحاة الأوائل. ومن وجهة نظري أنَّ العمل الوحيد الذي يُعدُّ إضافةً حقيقية للنظرية العربية في دراسة التراكيب بعد النحاة الأوائل إلى اليوم هو (دلائل الإعجاز) للجرجاني، الذي تضمّن نظرية النظم.
ويبدو لي أنّ هَمَّ تعليم النحو واحد من أهمّ أسباب توقُّف البحث في نحو اللغة العربية بعد النحاة الأوائل (نحاة البصرة ونحاة الكوفة)، وربما كان هذا الهم هو المحور الذي دارت حوله مؤلَّفات نحوية كثيرة، فمختصرات تعليمية يكون الغرض من تأليفها الحفظ، ثم شروح لهذه المختصرات، ثم حواشٍ على تلك الشروح، وهكذا.
وفي العصر الحديث ظهرت بعض المحاولات العربية التي تقدِّم نفسها باعتبارها إضافة جديدة إلى النظرية النحوية العربية، أو باعتبارها (تصحيحًا) لبعض النتائج التي توصَّل إليها النحاة السابقون، أو باعتبارها نظرية مستقلة. ويظهر لي أنَّ معظم هذه المحاولات لم تتجه إلى اللغة نفسها لتقدِّم دراستها للغة، بل بقيت تحت أسر النتائج التي توصَّل إليها النحاة الأوائل، ومع ذلك كلّه فقد تناول أصحاب بعض هذه المحاولات النظريةَ النحويةَ العربيةَ بكثير من التسطيح. ولن أتكلَّم عن شيء من تلك المحاولات هنا لأنَّ ذلك يحتاج إلى نقاش يطول. وفي ثقافية الجزيرة يُطلُّ علينا أستاذي أ.د. أبو أوس إبراهيم الشمسان بمداخلاته اللغوية (وأخص بكلامي هنا مداخلاته المتعلقة بالمستوى التركيبيّ للغة)، وبحسب متابعتي لمداخلات أستاذي أبي أوس تتميز هذه المداخلات بأمرين يجعلانها إضافةً حقيقية للدرس النحوي العربيّ: الأوَّل أنَّه يتوجّه في دراسته إلى اللغة نفسها باعتبارها المصدَر الحقيقيّ للدراسة مع إفادته من نتائج النحاة، والثاني أنَّه ينطلق من مبادئ نظرية يختلفُ بعضها اختلافًا حقيقيًّا عن مبادئ النظرية النحوية العربية؛ وهذا يؤدي به إلى نتائج كثيرة مختلفة عن النتائج التي توصَّل إليها نحاة العربية. وليس الاختلاف هنا هدفًا في ذاته، ولكنَّه أمر قد يُضيء لنا مناطقَ في تركيب اللغة لم يسبق التنبُّه أو التنبيه إليها، كما أنّه قد يقودُ إلى إنعاش الدرس النحويّ حين يُتلقّى بحيادية البحث والعلم.
وأستأذنُ أستاذي هنا في طرح بعض الملحوظات في مداخلاته المتعلقة بالمستوى التركيبيّ للغة العربية لعله يكون فيها فائدة: الملحوظة الأولى: يبدو همُّ التعليم غير وارد في تلك المداخلات، وهو أمرٌ جيد يساعد على الانفكاك من قيود هذا الهمّ، ويجعلُ دراسة الظاهرة في ذاتها لذاتها.
الملحوظة الثانية: قد يتناول أستاذي ظاهرةً لغويةً تركيبيّةً ما، ويُفسِّرُها تفسيرًا مختلفًا عن تفسير النحاة منطلقًا من مبدأ مختلف عن المبدأ الذي فسّر به النحاة الظاهرةَ نفسَها، ولكنَّه لا يخرج عن إطار المصطلحات التي استعملها النحاة؛ وقد يؤدي هذا إلى تلقّي عمله تلقّيًا مُشوَّشًا.
الملحوظة الثالثة، ولها ارتباط وثيق بالملحوظة الثانية: قد يتناولُ أستاذي ظاهرةً لغوية تركيبية ويفسِّرُها في إطار دائرة نظرية أوسع من إطار الدائرة التي فسَّر بها النحاة الظاهرة نفسها، وبسبب استعماله مصطلحات النحاة المستعملة في الدائرة الأضيق يبدو عمله عند المتلقين الرافضين (هدمًا للنحو العربي)، وقد لا يتجاوز عمله عند المتلقين المحايدين كونه (ترميمًا) لما ورد في النحو العربيّ، أو توسيعًا لمفاهيم استعملها النحاة.
وليتضح مرادي بالملحوظتين الأخيرتين أمثِّلُ برأي أستاذي في الموضوع الذي سبق أن داخلته فيه وهو (أنَّ الفاعل ينصب ويجر ويرفع)، وبرأي آخر له في ردّه على مداخلتي وهو (أنّ اسم إنّ مبتدأ)، ورأيه بأنَّ محمدًا في نحو: محمد قام، وإنَّ محمدًا قام (فاعل).
والذي أقترحه على أستاذي بشأن الملحوظتين الثانية والثالثة وأطرحه على شكل تساؤل: ماذا لو خرج أستاذي من دائرة نظرية العامل تمامًا؛ لأنَّها دائرة تُحكِمُ القبضةَ على الجزئيات التفصيلية في تركيب الجملة، فهي تحاول أن تُفسِّرَ أيّ تغيُّر ظاهريٍّ في الإعراب لكلِّ كلمةٍ مُعرَبة، واتّجه إلى دائرة المسند والمسند إليه؟ وبذلك رُبّما نجد كثيرًا من الأمور التي تبدو متشابكةً في مداخلات أستاذي غير متشابكة البتة، بل قد نجدها سلسة جدًا، وقد لا تواجَهُ بأي شيء من الرفض (مع أن عدم المواجهة بالرفض ليس هدفًا، كما أنَّه ليس مانعًا من تقديم أي نتيجة جديدة لدراسة جديدة).
إنَّ الاتجاه إلى الدائرة الأوسع سيُخرِجُنا تلقائيًا من دائرة مصطلحاتٍ مرتبطة بنظرية العامل، ولنجرِب إعادة صياغة آراء أستاذي الثلاثة السابقة في ضوء الدائرة الواسعة التي أقترحها: محمد في نحو: (محمدٌ كريمٌ)، و(إنَّ محمدًا كريمٌ) مسندٌ إليه. و(محمد) في نحو: (محمدٌ قام)، و(إنّ محمدًا قامَ) مسندٌ إليه. ويُلحَظُ أنَّ هذا الأمر سيقودنا تلقائيًا إلى أنّ المسند إليه ليس له حكمٌ إعرابيّ ثابت، فقد يُرفعُ أو يُنصَبُ أو يُجرّ.
كما أنَّ هذه الدائرة قد تؤدي بنا إلى فهم أعمق لكثيرٍ من الآراء التي يطرحها أستاذي حينَ يُسمي بقية مكملات الجملة التي يُمكن استعمالها مع المسند والمسند إليه. ويضاف إلى ذلك كلّه أنَّ دائرة المسند والمسند إليه يغلبُ عليها المبدأ النظري الذي يهتمُّ به أستاذي في مداخلاته وهو مبدأ الدلالة.
د. علي بن معيوف المعيوف