تعقيباً على مقالٍ للأستاذة سهام القحطاني التي نشرتها المجلة الثقافية (ملحق صحيفة الجزيرة) بتاريخ 12-1-2009م العدد 266 بعنوان (سجل أنا لست بعربي).
أعرف الزميلة العزيزة سهام القحطاني من خلال قلمها النشط والجريء ومقالاتها المتميزة ببعد النظر والدقة، ومن خلال مشاركاتها في ملتقى حوار بنادي جدة الأدبي والثقافي في أعوام 2003 -2004-2005م.
طرحت الكاتبة أفكاراً كثيرة في سياق المقال، وقد تحتاج إلى وقفة طويلة، لكني وجدت أن ثمة نقاطاً قد ابتعدت عن الصواب، أو أن التعبير لم يك دقيقاً بمفهومه السياسي والفكري.
مشروع الثقافة القومية الذي طرحه مؤسسو حزب البعث (ميشيل عفلق) وأنصاره كان بديلاً عن مشروع ثقافة المواطنة، والثقافة الإسلامية التي لن تستطيع الطوائف الدينية غير الإسلامية التعبير عن وجودها ومعتقداتها في ظل حكمها السياسي إذا تسلمت السلطة، كالطائفة السريانية والكلدانية والأرمنية والمارونية والدرزية المنتشرة في سوريا ولبنان والعراق، وانتشر الفكر القومي كتيارات منظمة في البلدان العربية المشرقية بعد حرب العالمية الثانية (سوريا ولبنان والعراق وغير ذلك...)، وجاء منظرو الفكر القومي العروبوي (زكي أرسوزي وساطع الحصري) وغيرهما لتأسيس وتوسيع الفكر القومي على قاعدة ثقافية قومية بحتة، ليكون البديل الفكري للتيارات الدينية الداعية لى بناء الدولة على أساسٍ ديني وبديلاً للفكر الشيوعي المبني على النظرية الماركسية اللينينية التي نادت إليها التيارات المنطوية تحت الفكر الأممي والتي انتشرت سريعا في المشرق العربي من خلال زعمائها، كخالد بكداش ويوسف فيصل ومراد يوسف وغيرهم، ورغم مرور عقودٍ طويلة على انطلاقة المشروع القومي لم يتمكن مفكروه المحدثون الخروج عن جلدهم القديم، وهم يرون أن مشروع القومية العربية يتعثر بل أصبح حجر عثرة أمام الإزاحة والتثبيت والتبديل التي تحدثت عنها، كالدكتور طيب تيزيني المفكر والفيلسوف العربي المشهور.
استطاع هؤلاء بناء سلطة سياسية اتخذت الفكر القومي العروبوي مطية لتمرير مشاريعهم، لأن المشروع الإسلامي في حال نجاحه سيصطدم بوجود طوائف دينية أخرى مما سيجعله يهمشها ويقصيها جانباً، وكي يتفادى هؤلاء حدوث ذلك نظروا للثقافة القومية ونادوا ببناء الدولة القومية بديلاً عن بناء الدولة الدينية، مع غض النظر عن التعدد الديني للمجتمع.
لكن غلاة المشروع القومي أسهموا في إغراق الفكر القومي في منهجية ضيقة مقتصرة على (العروبة) فقط، عندما أقصت كل الأفكار الأخرى، فأسسوا الدولة القومية على حساب الدولة الوطنية، مما أوقعهم في وهم كبير، وفي محاربة التعدد الثقافي والقومي الذي هي مصدر ثراء ثقافي وحضاري، فلوت تياراتهم عنق كل الأفكار والاتجاهات الأخرى بما يخدم توجهاتهم ومشروعهم.
جاءت في مقال الكاتبة (إضافة إلى تقليد الغرب في علمنة الهوية الجمعية للمجتمعات العربية عبر تقديم رابطة الدم واللغة والتاريخ والأرض وتأخير رابطة الدين).
لا أعتقد أن منظري الفكر القومي ومفكريه قد قلدوا الغرب في علمنة الهوية العربية، وتقديم روابطها على رابطة الدين، فهم قد وجدوا في الهوية العربية ملاذاً لوجودهم، فمعظمهم كانوا من الطوائف الدينية الأخرى (المسيحية على الأخص) وشعار القومية العربية تحقق لهم طموحاتهم وتحميهم أكثر من الشعارات الدينية التي ستجعلهم في الزاوية القصية الضيقة، فنادوا إلى بناء الدولة القومية، لكنهم لم يتمكنوا في وضع قواعد صحيحة لبناء الدولة الوطنية، فليس هناك تعارض بين الدولة القومية والدولة الوطنية، لكن هؤلاء جعلوا الدولة الوطنية تذوب في شعارات الدولة القومية، وابتلع الحزب أجهزة الدولة وسخر قوتها في خدمة الحزب، فأصبحت الدولة تابعة للحزب بدل أن يكون الحزب مسخراً للدولة، إضافة إلى اختزال الحزب في شخصية زعيمة، وهكذا تأسست أركان الاستبداد، وأصبح رئيس الدولة (القائد الضرورة، والزعيم الأوحد، والقائد الذي أهداه الله للشعب) هو الآمر والناهي، كصدام حسين وحزبه البائد. أما الذين تحدثت عنهم في مقالك (في دمشق وبيروت) فقد كانوا في غالبيتهم أدباء، أما المفكرون والمنظرون فهم الذين أطلقوا شعارات قومية طغت على أي شعارٍ آخر، فكانت صياغة مفهوم الدولة القومية مشروعاً فكرياً لتوجهاتهم وبديلاً لشعار الدولة الدينية، أو لأي صيغة أخرى، قد تحقق بناء دولة وتسهم في بلورة دولة المواطنة والقانون، فجاءت الدولة القومية مجرد شعارٍ فج، ساهمت في ترسيخ قيم الاستبداد والفكر الشمولي على نمط الدولة السوفيتية البائدة، وتحت غطاء الشعار القومي فقدت الدولة أهم أسس وجودها ك(تحقيق قيم المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان) والتخطيط السليم للتنمية الشاملة اجتماعيا واقتصادياً، هذه الأمور أوصلت دولاً غنية (كالعراق) إلى الحضيض السياسي والفقر الاجتماعي، إضافة إلى كل ماذكرنا أعلاه، اصطدم المشروع القومي بطموحات القوميات الأخرى المتعايشة والمتاخمة للعرب، نتيجة تصاعد حدة الخطاب القومي العربي لدى غلاة القومية ونزعتهم الإقصائية لما هو غير عربي، فكانت النتيجة معارك طاحنة بينهم وبين الآخرين (حروب طويلة بين القوميين العرب والكرد في كردستان العراق 1961، 1975، 1988، 1991، ولم تنته حتى الآن) وكذلك في جنوب السودان منذ العقد السادس من القرن الماضي وفي شمال أفريقية العربية (حيث تنتشر الأمازيغ).
كما جاءت في مقال الكاتبة سهام (يعتبر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر هو الأب الروحي للسياسة والثقافة القومية العربية)، لا أظن أن الأمر كذلك، لأن جمال عبدالناصر تبوأ السلطة في 1952 مع مجموعة من الضباط الأحرار، بينما كانت فكرة الثقافة العروبية تنتشر في سوريا ولبنان والعراق على أيدي منظري الفكر القومي زكي أرسوزي وساطع الحصري وميشيل عفلق (الأخير مؤسس حزب البعث) في أربعينيات القرن الماضي.
لكن جمال عبدالناصر أخذ مكانة هامة لدى العرب بعد نكسة حزيران 1967م وسطع نجمه فيما بعد وانتشرت أحزاب قومية تحمل اسمه (الوحدويون الاشتراكيون، حزب الاتحاد الاشتراكي، اتحاد اشتراكيين العرب..) لكن هذه التيارات لم تتسلم السلطة في بلدٍ عربي، ولم تطرح نفسها بديلاً لحزب البعث الذي أخذ يؤسس فروعه في معظم الدول العربية. كما وردت في مقال الأستاذة سهام (لكن ما أثبت فيما بعد أن علمنة الهوية العربية ليست الحل لإيجاد حضارة علمية للعرب، وأنها ما جلبت للعرب سوى سوء المصير، لأن علمنة الهوية بمفردها لاتكفل الوعي الحضاري للفرد، ولاتنتج أي إنجازٍ حضاري في غياب خطط التنمية..)
يدرك الساسة العلمانيون والمفكرون والحداثيون أنه لا يمكن تطبيق علمنة المجتمع ثقافياً وسياسياً بمعزل عن علمنته اقتصادياً، وعلمنة الهوية لاتتم من دون إيجاد خططٍ تنموية شاملة، تربوية، اقتصادية، ثقافية، اجتماعية. أما عبارتك (وأنها ما جلبت للعرب سوى سوء المصير) قد جانب الحقيقة، لأن المجتمع العربي لم يستطع إجراء تغيير جوهري في بنيته الفكرية والسياسية، فأدى في بعض الدول بتحقيق العلمنة التي تقصديها، بينما لم يتجاوز قادته وساسته ومفكروه البنية العشائرية الهشة حتى في تركيبة أحزابهم السياسية، فالخطأ ليس الفكر العلماني بوصفها القاعدة السياسية في تأسيس الدولة الوطنية، بل في أسلوب العمل السياسي وسوء الإدارة والتركيبة العشائرية، وإغراق قيادات عربية كثيرة في البحث عن مصالحها وتفضيلها على المصلحة الوطنية العليا.
الفكرة الأخيرة التي أود الوقوف عندها، هي ما بينته الكاتبة حول المسعى الحثيث للدولة الفارسية نحو إعادة بناء إمبراطوريتها القديمة (الحلم الذي يدغدغ قلوب الفرس).........
إن الدولة الإيرانية تطرح نفسها بديلاً لكثير من الأفكار التي تهاوت منذ العقد الأخير من القرن الماضي، كالشيوعية وغيرها، وتسعى إلى جعل نفسها الشخصية الكارزمية في المنطقة، وهي تعرف أنها لن تستطيع فعل شيءٍ خارج العباءة الدينية التي اتخذتها لنفسها، فمحمد الخرازي رئيس حزب الله الإيراني يعلن صراحة أنه لا فرق بين فلسطين وإسرائيل إن لم يدخل الفلسطينيون تحت عباءة شيعتهم، وليس لدى إيران الاستعداد لمد سفرتها إلى الآخرين بينما يتضور سكانها جوعاً.
إذاً لانية لدى إيران في تحرير فلسطين وتقديمها للعرب دون مقابل، وعندما تهدد أحمدي نجادي إسرائيل، بأن إيران ستزيلها من الوجود إنما يعلن ذلك تمريراً لموقفٍ سياسي، ولكسب الجماهير العربية الباحثة عن قشة فوق البحر أملاً في الخلاص من الغرق.
صبري رسول