عندما يتفاعل المثقف مع المخاضات الثقافية بتفكير طفولي يكن طفلاً وإن بدا مدججاً بأكبر الشهادات والألقاب ثمة مثقفون يتمنون ويرجون فإذا تحققت أمانيهم ركلوها بأقدامهم وأسفوا لوقوعها يتساءلون عن الحراك الثقافي ويفتقدون صوره ومظاهره فإذا فتح للحراك باب هبوا لإغلاقه ناسين أو متناسين أن الحراك المنشود مثلما هو: قراءة وكتابة وترجمة ونشر هو مواكبة للناجز والمنجز هو نقد مواز ونقد مضاد ومن حولهما تفاعل ونقاش وتفنيد ومعارك أدبية تعبر عن أكثر من رأي وفكر وتوجه وقوة في تبني رأي واستبسال في نقضه هو وقوع صخرة تعقب صخرة لتحريك مياه المشهد الراكدة فإذا رُشدت الحركة وعُوقت مسيرتها فهذا يعني أن ثمة شلل (ما)، قد يكون كلياً، أو نصفياً، أو جزئياً، أو أي شيء آخر، ولكنه لا يخرج عن كونه شلل.
والصدامات الثقافية بمختلف أنواعها التي يقتات البعض على رفضها للتمظهر بالطيبة والتسامح وقبول الآخر وإن اصطلحنا على تسميتها معارك أدبية إلا إنها لا تحمل كل ذلك العنف والهلع والسوداوية التي يحاول المقتاتون تضخيمها كما لو كانت اقتتالاً حقيقياً ضحاياه قتلى وجرحى وأسرى ومجرمي حرب!
المعارك الأدبية تختلف كل الاختلاف عن المعارك الدموية لأنها بكل بساطة معارك بيان لا سنان أي ليس ثمة خاسر فيها ومن ثم فالجميع منتصر: الناقد بتبيانه للثغرات، والمنقود بمعرفته للقصور، والقارئ بإضافته كما معرفياً لثقافته، وكلما كان المتساجلان كبيرين كان الطرح أكثر عمقاً، والفكرة أنجع قيمة، وكلما كانا عنيفين وشرسين كان الموضوع أكثر تشويقاً وإثارة وجاذبية، وما قد يخشاه البعض إزاء عواقبها الوخيمة قد يكون أقصر الطرق إلى رقينا الثقافي وكل ما فيها من مواجهات ومصادمات وتصعيد ورشقات وشغب ما هي إلا مكونات إثارتها الكاريزمية المشوقة، تلك التي افتقدها مشهدنا كما افتقد الطعام الجيد الملح والتوابل والمنكهات فعافته النفوس وهي في أمس الحاجة إليه.
وإذا أردت أن تعرف قيمة أمثال تلك المواجهات وانعكاساتها في مشاهد أخرى فتأملها جيدا في المشهد الرياضي وتحديدا في لعبة كرة القدم لتبدو لك بوصفها وقوداً يشعل حماسة جماهيرها الغفيرة فتجعلهم ينجذبون إليها بجنون ممتع وبإدمان لا يودون الإفاقة منه قد أكون مبالغاً ولكن قلي ماذا يبقى للإعلام الرياضي لو سُلب ملح مواجهاته، وشغب مصادماته، ومشاكسات رموزه ولاعبيه ومشجعيه، تلك التي تلاشت صورتها من حياتنا الأدبية، فتباطأت حركتها، وضعفت فاعليتها، وتراجعت للوراء، بعد أن انفض الناس عنها، وانصرفوا عن القراءة و الكتاب والثقافة والأدب إلى عوالم أكثر تشويقاً وإثارة وجاذبية بعد أن لم يجدوا في مشاهدنا ما يبهج.
جريدة (الحياة) نشرت أواخر العام المنصرم ما يمكن أن نطلق عليه بوادر معركة أدبية بين الدكتور عبدالله الغذامي والأستاذ محمد العلي وبمهنية راقية وفرص متكافئة سعت للنفخ فيها وقبل أن تذكو نارها وتصبح جمراً تداعى بعض مثقفينا لصب الماء عليها فأماتوها في مهدها مُكرسين شخصية الإطفائي الساذج الذي يترك نار الحرائق ويطفئ نار التصنيع والتعدين.
شرارة تلك المعركة بين الغذامي والعلي قدحت بعد أكثر من تصريح عَرض فيه العلي بالغذامي ومرة بعد مرة والغذامي يختبر صبره ويكظم غيضه حتى سألته (الحياة) عن رشقات العلي المصوبة نحوه في أكثر من مناسبة فلم يجد الغذامي إلا أن يدافع عن نفسه من خلال وصفه للعلي بقوله: (خيولي مسرجة ولكن الطريدة هزيلة) كناية عن قدرته على المنازلة وضعف العلي عن احتمالها ولافتا إلى أنه قد تناول بالدرس بعض من استحقوا أن يكتب عنهم كالمتنبي وأدونيس ونزار ومؤكداً أنه قد يلاحق نجوماً أو أُسوداً ولكنه لن يلاحق الرخم! (الحياة - العدد 16669).
في العدد التالي انبرى العلي للرد على الغذامي فنال منه بلغة مباشرة لم تسمُ إلى لغة الغذامي المتذرعة بكناية مستهلة بالأُسود ومختتمة بالرخم وهنا لم يجد العلي سوى أن يوسع الغذامي شتما من خلال وصفه: باللص والسطو على جهود النقاد والمفكرين ونعته بصاحب القريحة المجدبة والمتسلق إلى الشهرة بازدراء الآخرين.
هذا التراشق الجميل وإن بدا انفعالياً في أوله وعاطفياً في تعابيره كما هو شأن الكثير من مواجهات الكبار إلا أنه سيغدو في سياقاته اللاحقة أكثر عمقاً وأكثر جدوى لو تجنبه الدخلاء وأحسنوا الظن بمعقولية وثقافة الرمزين المتساجلين إلا أن هذا لم يحدث لأن الفضول الثقافي دفع بمدعيي الأفلاطونية الزائفة ليعلنوا الوصاية عليهما وليبدوا أسفهم لما وقع بينهما وليدعو أنهما للكف عما شجر وبعضهم وجد في استطلاع رأيه فرصة ليُنفس عن عقده المكبوتة ولينال من أحدهما انحيازاً للآخر، كما انحاز غير واحد ضد الغذامي ورغم عملهم بالانحياز الذي يعرفونه جيداً إلا أن أيا منهم لم يبد انحيازه للحقيقة التي افتقدها القارئ في لغط ذلك المعترك فلما التمس الحقيقة ليهتدي إليها ضل طريقه نحوها وحين تلفت يبحث عنها لم يجدها ولم يقف لها على أثر لأنها بكل بساطة أميتت وفرق دمها بين الذين ذرفوا دموع التماسيح على الطلاق الوجداني بين الرمزين الكبيرين اللذين شاءا أن يفترقا ببينونة كبرى فيما المتباكون على فراقهما ما زالوا يؤملون أن يؤدم بينهما وهو أمل جميل ورغبة تُحترم ولكن ليس على حساب الحقيقة المغيبة بين القطبين المتنافرين!
مثقفو إصلاح ذات البين الثقافي ذوو النوايا الحسنة أو الحسابات الخاصة أو التطفل والفضول اللامسئول قدموا مصلحة المُثقفين المتساجلين على المصلحة الثقافية وحفظ ماء وجهيهما على صون حمى الثقافة والمعرفة والمصلحة الإيديولوجية لهما على فكر وثقافة مشهد بأسره كما قدموهما على القيمة والمبدأ المتبلوران في الحقيقة المُضيعة بين الغذامي والعلي وليذهب ما عداهما إلى الجحيم كما أرادوا أن يقولوا وإن لم تفصح ألسنتهم.
الغذامي وصف خصمه بالطريدة الهزيلة و(الغذاميون) سيرونه كذلك والعلي وصف الغذامي باللص الذي يسرق جهود الآخرين و(العلويون) سيرونه كذلك فإن يكونا كما وصف كل منهما صاحبه فينبغي لهما أن يبرهنا أقوالهما أو يتراجعا عنها لأن من غير المعقول أن يكون العلي (طريدة هزيلة) بحسب الغذامي وهو يُقدم للمشهد بوصفه (مفكراً وأبا للحداثة السعودية) ومن غير المعقول أن يكون الغذامي (لصاً) بحسب العلي فيُسكت عن (سرقاته) كما سُكت عن (هزال) العلي ليخدع المشهد بهزال هذا ولصوصية ذاك!
مع كل خلاف يرد المتغير إلى الثابت وليس العكس وفكر الأمة بلا شك أهم من مفكريها والقيم الثقافية أهم من المثقفين أنفسهم لأن المثقفين يعرفون من خلالها لا أن تعرف هي من خلالهم والمواجهة النقدية بين الغذامي والعلي وحدها القادرة على إثبات أو نفي ما ادعياه هي التي يمكن أن تبرهن على قوة أو تهافت تجربة أو مشروع كل منهما ومركزية أو هامشية أحدهما أو كلاهما فإن يكونا جبلين بحق فهي التي يمكن أن تقول لنا أنهما جبلان تتكسر على سفوحهما نصال النقد دون أن تؤثر فيهما وهي التي من خلالها تتكشف أحجام كل منهما كما تكشفت مواجهات الكبار عن سلسلة جبال وسلسلة كتب تمخضت عن عراكهم الجميل.
الأحساء