العنوان هو عبارة مجتزأة من نص شعري كتبته في مرحلة سابقة ولم أعد أذكر اسم القصيدة أو الديوان الذي ضمها.. حاولت أن أبحث عنها، تجاوباً مع رسالة وصلتني من قارئ عزيز يسألني عن اسم القصيدة والديوان، ولكني لم أستطع الاستمرار في إعادة القراءة من أجل البحث عن ذلك.. فقد أخذتني كلمة (الحزن) إلى حيث أحتفل.
ومن دون شعور (أو بالشعور كله- سيّان) رحتُ أنفض الغبار عن بعض الكتب والقصاصات المتخمة بالحزن العربيّ تراثاً خالداً.. توقفتُ أتأمل كنه هذا الكائن المسمى (الحزن) هل هو مجرد شعور لعاجز؟ أم هو إبداع -كما أردد دائماً-؟ أم هو أشياء مختلفة وبعيدة عن هاتين الصفتين؟!
العالم العربيّ كله تقريباً يعيش حالة يسميها مجازاً ب(الحزن)، لكن حين نتفحص (لسان حالنا- أو نتاجه!) جيداً سنجد (الألم).. وثمة فرق! فالحزن -برأيي- هو فكرٌ يخطر بالبال فيهيمن على القلب، وليس وجعاً يحلّ بموضع فيستدعي الصراخ..!
وكثيرة هي القصائد التي يظنّ أصحابها أنّ بها حزناً، لكنها تخلو من كلّ فكر يخطر ببال.. ولهذا لا أستطيع أن أحتفل بها حزناً.. أبداً..
بينما ثمة قصائد -أو أبيات عابرة- تجعل من يقرأها يطير بها حزناً، كما طرتُ أنا مع أبيات منسوبة لأبي الحسن علي بن فضال المجاشعي القيرواني، وهو عالم لغويّ ونحويّ متوفى سنة 479هـ - 1086م، ولم أجد له شعراً مشهوراً غير هذه الأبيات:
وإخوانٍ.. تخذتهمو دروعاً
فكانوها، ولكن.. للأعادي
وخلتهمو سهاماً صائباتٍ
فكانوها، ولكن.. في فؤادي
وقالوا: قد سعينا كلّ سعي
فقلتُ: نعم، ولكن.. في فسادي!
فقالوا: قد صَفَتْ منا قلوبٌ
لقد صدقوا، ولكن.. من ودادي!
لا أظنّ قارئاً عابراً يستطيع أن يمرّ بمثل هذه الأبيات الأربعة من دون أن يحفظها في ذاكرته كفكرةٍ لا تخطر بالبال إلاّ في أسمى وآسى حالات الإبداع الشعريّ الشاهد على عصره والمؤرّخ لتجربةٍ عاشها أناسٌ كثيرون، ولكنّ عدداً قليلاً من الشعراء (الحقيقيين) استطاعوا التوثيق لهذه الحالة.. أو هذا الحزن..
لعلّ أوّلهم كان طرفة بن العبد (وظلم ذوي القربى..) ومن بعده وبعد المجاشعي قال معن بن أوس في ابن أختٍ له قصيدة باتت أكثر شهرةً منهما:
فَيَا عَجَباً لمن رَبَّيْتُ طِفْلاً
ألقِّمُهُ بأطْراَفِ الْبَنَانِ
أعلِّمهُ الرِّماَيَةَ كُلَّ يوَمٍ
فَلَمَّا اشْتَدَّ ساَعِدُهُ رَمَاني
وربما قيل وسيقال الكثير من الشعر العظيم في حالات مشابهة تليق بحفلةٍ من حزن.. فالحزن هنا مشروعٌ، كون الجناة والضحايا (أهل).. على عكس ما انتهجه البعض ممن ينظمون (الشعر) من دون (شعور) حقيقيّ بماهيّة الحالات التي يستهلكونها في قصائدهم..
لم ينتبه بعضُ الشعراء في زماننا، الذين هبّوا فجأة وعلى نَفَس واحد يكتبون قصائد عن (غزة) و(فلسطين) بمجرد أن رأوا (مادة) تصلح للكتابة (شعراً) فراحوا ينظمون أشياء مخجلة وربّ الكعبة، فشاعر يقول (فلسطين قومي) وآخر (فلسطين انهضي) وثالث (فلسطين اصمدي) ناهيك عن الربط اللفظي -الألمعيّ!- بين كلمتي (غزة) و (عِزة) بشكل سطحيّ بارد.. فمن يقرأ تلك القصائد يتصوّر أن (ناظميها) يقفون في مواجهة العدو ببسالة، بينما فلسطين (أو غزة) تحاول الفرار فيقول لها الشاعرُ البطلُ: اصمدي!
ثم يمضي في كتابة قصيدة يظنها مشبعة ب(الحزن) بينما الأولى أن يجعلها مشبعة ب(الخجل) أكثر من أي شيء آخر.
لا بدّ إذاً أن أفقد بعض احترامي لهؤلاء الشعراء وأقول لهم: بل انهضوا أنتم، وثقفوا شعوركم، واصمدوا.. وارحموا فلسطين وغزة وارحموا الشعر بصمتكم.. فالصمت خجلاً أفضل من امتطاء الشعر حزناً هامشياً يحجّم القضية ويجعلها على مقاساتكم!
وكأنما لم يلاحظ أحدٌ كل تلك (الاقتتالات) التي تدور بين (أهالي) المدينة العربية الواحدة، عادةً، قبل كلّ هجوم من العدوّ الحقيقي..
ذلك الاقتتال، وتلك الحروب (الأهلية) والنزاعات على (الزعامة) إنما هي التهيئة لكل اعتداء من كلّ عدو، فإن كان للشعر أن يظلّ شاهداً على عصره فعلى الشعراء أن يكونوا على قدر من الفراسة والوعي قبل التسابق إلى (تسجيل الحضور) في قوائم أسماء من كتبوا شعراً عن (المأساة) بل عليهم أن يفهموا القضية -لا المأساة- أولاً..
ومن أغرب ما استغربتُ منه في قضيتنا الكبرى هذه، هو ما أقدمتْ عليه إحدى الصحف (العربية) حين اشتدّ أوار الحرب على فلسطين، فقررتْ أن تخصص صفحات ليملأها الشعراءُ قصائد (من نوعية: قومي فلسطين واصمدي غزة!).. وحين أرسلوا إليّ دعوة للمشاركة (بقصيدة في هذا الشأن!) لم أستطع إجابتهم إلاّ ب(اعتذار لطيف) وشرحتُ لهم بعض وجهة نظري.. فما كان منهم إلاّ أن اعتبروني (عديم الشعور والإحساس) واتخذوا موقف الضدّ مني..!
وربما لو كانت السلطة بيدهم لاقتصوا مني شرّ اقتصاص (أشدّ مضاضةً)!
أمّا والحالة أصبحت بهذا المستوى من اختلاف الرؤية في التعاطي مع القضايا الوطنية شعراً، واتساع المسافة بين وجهة نظر أؤمن بها ووجهة نظر بعض أعزّ أصدقائي (رغم تطابق المواقف والضمائر قلباً وقالباً) فليس أقل من أن أقول صراحةً: إن معظم القصائد التي نظمها أصحابها مؤخراً عن القضية الكبرى، كانت تسيء إلى القضية الكبرى.. (ولن أقول تسيء إلى الشعر، لأني لم أر فيها شعراً)!
وأتمنى أن أكون على خطأ، لأنني أتمنى أن تكون الغالبية على صواب!
ولا أستطيع أن أخفي تحيزي إلى القصائد التي يكتبها أصحابها عن قضاياهم التي يواجهونها بصدق ويكرسون أعمارهم وحيواتهم من أجل تلك المواجهات الصادقة.. كما كان الراحل محمود درويش (وسقطتُ قربكَ، فالتقطني/ واضرب عدوّك بي) وكما يظلّ الكبير سميح القاسم (جدران بيتكَ تحفظ عن ظهر قلبٍ وجوه القذائفْ/ وأنتَ بباب المشيئة واقفْ).. وغيرهما ممن أضافوا إلى القضية والشعر أحسن الإضافات (لا كمن يستغلها -على حساب الشعر- أسوأ استغلال).
وقبل الخروج من هذا الموضوع (أو هذه القضية) سأقول عن قناعة راسخة وإيمان: إن أعظم القصائد هي التي تكون بمثابة (شهادات) على عصرها، وعلى أصحابها، وعلى قرّائها أيضاً.. أما (المحاكاة والتأثرات) عن بعد، فستكون عظيمة أيضاً لو جاءت على شكل (مقالاتٍ ودراسات وتحليلات) تنويريّة وتحفيزية وتكشف (الحقائق) للناس.. كل الناس. فالمقالة ليست مرتعاً خصباً للادعاءات والتهويمات وتزوير الواقع والمواقع والأدوار، كما يحدث كثيراً في القصائد..!
ختاماً، وبالعودة إلى موضوع العنوان.. أكرر اعتذاري للعزيز الذي راسلني يسأل عن اسم القصيدة ومكانها، فليس من السهل عليّ البحث عن سطر في عشرة دواوين -أو عشرات وربما مئات الدوريات- وأنا لم أعد أؤمن إيماناً كاملاً بجدوى أيّ شيء كتبته فيها، ومع ذلك حاولتُ البحث عبر (الإنترنت) فظهرت لي مواقع كثيرة تجتزئ المقطع نفسه من دون إشارة إلى عنوان المصدر:
ها أنتَ خارِجُ ما أتيتَ لأجلهِ
ها أنتَ وحدكَ..
فاحتفل بالصبحِ في رئتيكَ
يرتدّ اعتباراً،
احتفل بالملحِ من جفنيكَ
يحتدّ اعتذاراً:
أنّكَ ال(مازِلتَ) وحدكَ،
فاحتفل بالحزن وحدكْ!
الرياض
f-a-akram@maktoob.com