بامتداد ثلاث مقالات في ملحق ثقافة اليوم بصحيفة الرياض (7 رجب، 28 رجب، 27 شعبان 1424هـ)عالج الدكتور محمد ربيع الغامدي إشكالية المعنى في التواصل اللغوي. وقبل الدخول في حوار معرفي مع ما طرحه الغامدي أود أن أقول ابتداء إنني أعد الرجل واحداً من فئة قليلة من اللسانيين العرب الذين يؤسسون ويمارسون اتجاهاً بالغ الأهمية في اللسانيات المعاصرة؛ وأعني بذلك اتجاه (اللسانيات النقدية) critical linguistics - بالمعنى الواسع لكلمة (نقدية). وهنا نقول إن هدف هذا الاتجاه هو الكشف عن المسالك اللغوية التي تصاغ بها المواقف الفكرية المستترة، والعمليات الأيديولوجية الفاعلة في التفاعل الثقافي، والتحيزات الضمنية الكامنة في خطاب النصوص المكتوبة أو المنطوقة. ومن هذا المنظور تأتي قراءة الغامدي لإشكالية المعنى. ومن هذا المنظور أيضا تأتي قراءتنا لقراءته.
من الواضح بدءاً من العنوان الذي وضعه الغامدي لهذه المقالات؛ وهو (اللغة ومشكلة المعنى)، ومما تضمنته المقالات الثلاث، أن الغامدي يميل إلى أن يضع مشكلة التباس المعنى، وما يترتب على ذلك من مشكلات الفهم ومعوقات التواصل والحوار، على عاتق اللغة نفسها، وليس على عاتق الإنسان المسؤول عن إساءة استعمال اللغة. فمنذ السطور الأولى يصرح الغامدي: (لم يعد أغلب الباحثين المعنيين ب (المعنى) اليوم يشكُّون في أن اللغة كما تكون وسيلة للفهم والإفهام هي في الوقت نفسه وسيلة ممتازة لسوء الفهم وقطع التفاهم، فهي إذا وسيلة من وسائل حجب المعنى الفعالة). ويحدد الغامدي هدف بحثه بأنه (إبراز بعض الزوايا التي يسوِّغ إبرازُها الدعوةَ إلى وجوب عدم الوثوق التام في أداء اللغة ما يُراد لها من معنى). وفي سياق هذا الهدف يشير إلى جملة من الاستشهادات منها مثلاً (دعوات الفلاسفة في أوائل القرن العشرين إلى إقامة لغة مثالية صناعية تحل محل اللغة الطبيعية؛ طلبا للتوصل إلى حل إشكال القصور اللغوي بعد أن هالهم ما يكتنف الدلالة اللغوية من قصور هائل بصورة حتمية لا مناص منها). ويتواتر حديث الغامدي عن (الطبيعة المراوغة (للغة، وعن أن (معوِّقات المعنى من اللغة ذاتها)، وعن أن (اللغة ناقصة الدلالة)، وأنها (موهمة الدلالة). ويرى الغامدي أن (التأمل والمراجعة (يفضيان إلى أن هذه (حال حتمية، تفضي إليها اللغة). وتزداد نبرة الحتمية تلك وضوحاً عندما يقول الغامدي (اللغة التي يلجأ إليها الناس للتواصل قد تكون هي العائق دون التواصل، والمانعة من حصوله. ذلك لأنها لعبة كما يقول (فتجنشتاين) لا يعيها أغلب الناس؛ بسبب أن اللغة قادرة في بنيتها التكوينية على التمويه والخداع، وعدم إعطاء الفرصة لاكتشاف أسرار لعبتها الدلالية، وهذا هو مكمن الخطورة فيها. ولا يقترب مستعملو اللغة والمشاركون في اللعبة من الوعي ببعض مراوغات اللغة إلا نسبياً وبقدر إجادتهم اللعبة التي يشاركون فيها، لكنهم يعجزون حتماً عن مجاراتها أو السيطرة الكاملة عليها). على أن أخطر ما تفضي إليه هذه الوجهة من التفكير يتمثل في قول الغامدي التالي (والعجيب أن هؤلاء الذين يحكمون حياتنا عن طريق إساءة استعمال لغتنا قد لا يقصدون ذلك، وهم بطبيعة الحال لا يدركون حقيقة ما يفعلون؛ لأن المسألة تتعلق في المقام الأول باللغة ذاتها أكثر من تعلقها بمقاصد مستعمليها).
وعلى ضوء مجموع هذه الأقوال المقتبسة من دراسة الغامدي فإن أسئلة عديدة يمكن أن تطرح من أجل تشخيص الأدوار اللاعبة في إيجاد مشكلة التباسات المعنى بين اللغة من جهة، والمقاصد والإرادات الإنسانية من جهة أخرى. ولعل السؤال الأول المهم هنا هو: هل يمكن أن تكون اللغة غامضة وملبسة ومخادعة، أو واضحة ومستقيمة وناجعة في تحقيق التواصل، بمعزل عن غموض مقاصد مستعمليها وإلباساتهم وخداعهم وأخطاء إدراكاتهم، أو عن وضوح هذه المقاصد والإدراكات واستقامتها؟ وإذاكانت الإجابة هي أنه لا يمكن الفصل بين الاستعمال اللغوي والتجربة الإنسانية؛ أي بين اللغة والثقافة، أو بين اللغة وممارسة الإنسان لفعله التاريخي، وإذاعرفنا أن التجربة الإنسانية هي التي تشكل علاقات القوة والتضامن والهيمنة والاختلاف والفعل والفعل المضاد والخطأ والصواب، فإن النتيجة المتحصلة من ذلك هي أن اللغة - بما أنها فعل اجتماعي- كانت وستبقى أحد أسلحة الإنسان التي بها يكرس وجهة العلاقة التي يريدها ويسعى إليها. وهنا نتذكر تلك الصورة الدالّة التي تذهب إلى تشبيه اللغة بالمطرقة hammer: فالمطرقة بوصفها أداة يمكن للإنسان أن يصنع بها الأشياء الجيدة والأشياء الرديئة. ولا شك أن التاريخ الإنساني مليء بنماذج هؤلاء الذين قبضوا على مطرقة اللغة فمنهم من صنع بها الجمال، ومنهم من صنع بها العنف..
فليس للغة إذن منزلة أنطولوجية سابقة على الإنسان تفرض عليه من الإرغامات والقهر والتسلط ما يجعله يقول ما لا يري د أو ما لا يقصد. بل العكس - فيما أرى- هو الصحيح؛ حيث إن المقاصد والإدراكات الإنسانية هي التي فرضت وتفرض على اللغة إرغاماتها وتسلطاتها ومناواراتها واستراتيجياتها؛ أي أنها -باختصار- تفرض خطابها الإيديولوجي، وقيود وضعها ومكانتها في الفضاء الاجتماعي، وحدود إدراكها المتدرج للظواهر بين طرفي الصواب والخطأ. وهذا المنظور هو ما تحاول اللسانيات النقدية أن تكرسه. إنها لا تقاوم اللغة ذاتها، وإنما تسعى لكشف اتجاهات التعمية والإلغاز في استعمالها، وتقاوم العمليات الاجتماعية التي تسيء استغلالها في خطابات التواصل.
الرياض