ليس هناك أصعب من أن يموضع المرء ذاتاً لا تنفكُّ عن ذاته، أو أن يشرِّح جسداً هو - من حيث لا يدري - جسده...، وليس هناك أصعب من الحديث عن فضاء (دكتاتوري)، يملي عليك الخواطر، والقصائد، والحكايا...
هكذا يتراءى لي حديثي عن (خالد بن عبد العزيز الدخيل)، الصديق الذي صار فجأة (أنا)!! تلبّسني أو تلبّسته؟! لست أدري...، لكنني حين أتحدَّث عنه أجدني أتقاطع معي، أكون كمن يثرثر عن نفسه، أو كمن يتأمل ملامحه في مرآة نظيفة، هل لأننا جدولان ينبعان من منبع واحد، ويصبّان في مصب واحد؟! نعم، ولا، ولست أدري، وما من إجابة أوفى من هذه الإجابات الثلاث إذا اجتمعت!!
لقد تحرّكت فيّ هذه الخاطرة حين رأيت كتابه (حمد الحجي شاعر الآلام) مزروعاً في أرفف مكتباتنا، تحيط به هالة من اللون الأحمر ولون الغروب، فتساءلت في لحظة استبطانية قاسية:
لمَ حمد الحجي وليس غيره يا خالد؟
ولم التركيز على هذه الصياغة في العنوان: (شاعر الآلام)؟!
ولم جاء غلاف كتابك بهذا اللون الدالِّ - فيما يدلُّ - على الوهن والعذاب؟!
ولم انتقيتَ من مئات الأبيات التي كتبها الحجي هذا البيت، وألقيته بخط متعرِّج على باب الغلاف:
فيا زورقي قد طواني المساء
ولم يبدُ لي شاطئ طيّب
أسئلة تناسلت فيّ بشكل عجيب، ما أن يخبو أحدها، إلا ويشتعل آخر، ولكي أجد إجابة عنها، أو عن بعضها، موضعت الصديق الذي صار (أنا)، شرّحته وتشرّحت به، فكانت هذه القراءة: اشتغالاً على (المبدع)، و(الناقد)، و(المنهج) بوصفها إشكاليات ثلاث، اجتمعت في دراسة علمية واحدة، فشكلت مجالاً للجدل في منهجها، ومنهجيتها، ومادتها، وتقسيماتها، وما إلى ذلك من بنيات ودلالات... وما أريد هنا أنْ أعرض الكتاب، ولا أنْ أستعرض فضاءاته، وما أريد تتبّعه، بقدر ما أريد مناقشة إشكالياته الكِبار، وهي - على أية حال - إشكالياتٌ سِمان، ليس من اليسير - في ظلِّ محدِّدات الوقت والمساحة - أن آتي فيها على آخر، غير أنني سأفتح ملفّات أغلقت ابتغاء إثراء مستنداتها بنقاش علمي وموجز، لا سيما والكتاب الذي أدور في فلكه - أو أُدار - قد سبقني إلى شيء من ذلك...
1- ميلاد الكتاب / الحكاية:
في مساء بللته السماء كنتُ والدخيل وعدد من الزملاء جلوس في مكتب الدكتور محمد بن سعد بن حسين نتدارس جزئية من جزئيات منهج أدبنا الحديث في مرحلة (الماجستير)، فسلك الحديث وقتذاك طرقاً مختلفة، مررنا في واحد منها بقامة (الحجي)، فتوقّفنا عندها طويلاً،لم يكن الحديث عن شعره ولا عن شاعريته، وإنما كان عن شخصه، وكيف أنه مرّ بحالات استثنائية من الفقر والحرمان والألم، جعلت منه حكاية لا تملُّ من التجدّد كلما أبلاها الزمن...، وقد ساعد على انسيابية هذا النوع من العرض أنّ الأستاذ كان على علاقة وثيقة بالحجي، رشّحته لأن يكون واحداً من أبرز الشهود على مسيرته الحياتية، هذا إن لم يكن هو الشاهدَ الوحيدَ..
في ذلك المساء كان (الدخيل) أشدّنا إصغاء إلى الكلمات، وأكثرنا احتفاء بمحتواها، وما زلتُ أذكر كيف أنه كان يدفع بالسؤال تلو السؤال عن (الحجي)، وحياته، وميلاده، ووفاته، واستمرّ واستمرّ حتى فجّر سؤاله الأهمّ؛ ليشفّ به عما يتلظى بين جنبيه: (دكتور، هل سبق لأحد أن درس (الحجي) في رسالة علمية؟ (ولم يمضِ وقتٌ حتى أجابه الأستاذ بالنفي، وزاد على ذلك أنْ شجّعنا جميعاً على دراسة هذا الشاعر، دراسة تليق به، وبالظروف الحياتية التي عايشها...، ووعد بالمؤازرة أيضاً...
خرجنا من تلك القاعة ولم يدر في خلد واحد منا أنّ (الدخيل) سيتوجّه بالفعل إلى دراسة (الحجي)، ولم نكن نعلم لحظتها أنّ أسئلته التي طرحها ستستمرُّ في التدحرج حتى تنجب كتاباً بهذا الحجم.
خان (الدخيل) بلادتنا الذهنية وفعلها، وطلع علينا من ثنيات الألم بكتابٍ دامعِ العينين، مكسور الفؤاد، يتحدث عن الألم، بمنهجية متألمة، وبلغة لها أنين...
إنَّ الذين يعرفون (الدخيل) لا يعجبون من تعالقه مع (الحجي)، فهو - من حيث كونه ذاتاً - مفعم بالألم، حفي بالحزن حتى كأنه يخترعه...، صمته الغريب، عيناه الممتلئتان بالدمع البارد...، شروده الدائم...، إصغاؤه الغريب لحكايا المأساة...، شِعْره المزركش بالفجيعة...، لغته المطلية بالسواد...، كلها تكشف عن روح لا تجد نفسها إلا على شاطئ الأسى...
وإذن فأنا أزعم هنا أنّ (الدخيل) أقدم على دراسة (الحجي) بدافع ذاتي، بعيدٍ كلّ البعد عن الأدب، فهو حين اتخذ قراره بدراسته لم يكن مدفوعاً بقافية واحدة من قوافيه، ولا بغرض من الأغراض التي طرقها، ولا بشيء من أشيائه النصّية، ولا حتى بحكم نقدي استثنائي يدفع إلى المغامرة من أجل الإثبات أو النفي...، وإنما كان مأخوذاً بذات (الحجي) المتألمة، وبحكايته الغريبة...، ولو أنّ (الحجي) كان كغيره من الشعراء، لما توقّف عنده (الدخيل) هذا التوقّف الطويل...، وهذه التناغمي ة سنة سنها ناقدون من قبل لم يكن يعنيهم من النصِّ إلا تعبيريته عنهم، وعن حيواتهم، وأزمنتهم الثلاثة، بما فيها من إمعار وإمراع، يقول (أناتول فرانس): (فخير النقاد من يحكي مغامرات نفسه في رحلاته بين عيون المؤلفات ((غنيمي هلال، قضايا معاصرة،ص) ويقول (هازلت): (لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن تتأثر بأنواع من التأثر تجاه الأشياء، وعندي من الهمة ما يكفي للتصريح بها كما هي ((السابق، ص102).
فيما بين خيرية (أناتول) وهمة (هازلت) وقف (الدخيل) فوق صرح مرّده (الحجي) بكلماته ودموعه، ليبحث عن مغامراته التي لم يستطع هو تمريدها بشاعريته، ومن ثم فالصورة وما وراءها تقدِّم لنا مشهداً نقدياً معكوساً، يبرز فيه الشاعر تالياً للناقد، يفكِّك خطابه الذي تعسّرت ولادته فماتَ في رحم أمه.
وهذا ما سيتضح شيئاً فشيئاً عبر تقسيمات هذه القراءة العجلى.
".... يتبع"
الرياض