إن يكن ثم من ينازع في وجود أدب نسائي وآخر رجالي، وينحاز لتأييده بإزاء من يسعى لتفنيده؛ فمجموعة: (سرداب التاجوري) للقاصة مريم خليل الضاني منحازة بامتياز لأدب المرأة وبمرجحات كثيرة، ولو قدّر لواحدة من نسخ هذه المجموعة أن تفقد أغلفتها لما شك قارئها أنها مكتوبة بقلم نسوي.
مريم خليل الضاني الفلسطينية الأصل عاشت شطراً من حياتها في المدينة المنورة، ولنشأتها المدنية انعكاس على تكوينها الثقافي ولا شك، و(سرداب التاجوري) الذي جعلته اسماً لمجموعتها هو في الأصل موضع بأحد أحياء المدينة المنورة، ومن هنا كانت أفكار نصوصها مزيج تلاقح عولمة عربية، تقاطعت دوائرها في آهات شجن نسوي ممتد من الخليج إلى المحيط.
هذه المجموعة هي باكورة نتاجها القصصي، وقد صدرت أواخر العام الماضي (1428هـ - 2007م) عن دار المفردات بالرياض، في 89 ص من القطع المتوسط، متضمنة خمسة عشر نصاً قصصياً قصيراً، جلّها متولّد من رحم معاناة نسوية، خبرتها الكاتبة عن كثب، فأحست بها، وأحسنت توصيفها، وتقمص بعض شخصياتها، واستنطاقها - أحياناً - بضمير المتكلم حتى لكأنها تحكي سيرة ذاتية واقعة لا نصاً سردياً متخيلاً أو مزيجاً بينهما، فنص (أسبرين) وهو أول نصوص المجموع.. يحكي قصة معلمة قررت العودة إلى البيت بعد رحلة عمل طويلة، تكلّلت بتقاعدها الذي أتاح لها رؤية الأشياء بنقاوة لم تكن تكترث لها وهي منهمكة في مهام عملها الوظيفي وضغوطه اليومية الخانقة.
وعلى هذا المنوال تجيء سائر نصوص المجموعة لتحكي طرفاً من: هموم المرأة، وشجونها، وقضاياها، وأفكارها، ومشاعرها، وعواطفها المنعكسة في بنى سردية معبرة عنها بصدق، وواقعية لم تُخل بعاطفة القص، أو تدفق إيحاءاته المتطورة مع خطه المتنامي من فواتح النصوص، حيث المقدمات التشويقية، ومروراً بالحبكة، وانتهاءً بخواتيمها، أما الأقل من النصوص التي لم تكن المرأة فيها شخصية محورية فتظهر على الهامش - أحياناً - ولكن بوصفها قاسماً مشتركاً إلى جانب الرجل.
أفكار المجموعة قيمية خلاَّقة كما في نص (ضوء، على بابه، مثل ما أحب أمي، انتظار) وبعضها معاناة مشاعر مكبوتة، كما في نص (صباح الدم، مارد) وغيرهما، والنصان الأخيران نسويان بامتياز: للغتهما، وتعابيرهما، وعاطفتهما، وطاقتهما الشعورية.
ففي (مارد) تلتقينا (حياة) المطلقة بخلع، ورغم حبها لبعلها إلا أنها تضطر لطلب الخلع مرغمة لعقمه، استجابة لغريزة الأمومة الملحة بداخلها، وبعد انفصالها وزواجها بآخر (سامي)، لم تنس زوجها الأول (خالد)، الذي بات طيفه يبرز لها في كل مكان، حتى وهي بحضرة (سامي)، وعلى هذه الوتيرة يبدأ النص وينتهي في حوار سردي آسر، يمثّل أمرَّ حالات الفراق القسري، ويحكي آلامه بشجن في واحد من أجمل نصوص المجموعة.
لغة المجموعة سهلة ممتنعة، ولولا بعض الهنَّات لكان أسلوبها أبلغ عبارة، ومن الملاحظات التي استوقفتني في بعض النصوص: استخدام بعض المفردات على غير وجهها كما في ص12 حين عبرت بلفظ (ريح) عن الرياح، والأول مختص بالعذاب كما في الآية الكريمة بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ، أما الثاني فيشمل الرياح الطيبِّة وغيرها، وهي المقصودة في سياق النص.
في الصفحة التالية عبرت القاصة عن انبعاث الهواء بوصف الدفق، والدفق لا يكون في الغالب إلا للسوائل، كما في الآية الكريمة : خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ، والدافق المندفع بسرعة، والقاصة أوردت الدفق في سياق الانبعاث الهادئ، وإذا صح استخدام الدفق للتعبير عن الهواء فينبغي إمضاؤه بوصف السرعة لا البطء.
في ذات الصفحة نقرأ: وما لبثت أمه أن انطلقت على أثره وسحبته والمراد في سياق النص أن الأم انطلقت تطارده فور فراره، ولكن استخدامها لكلمة (أثره) بالهمزة المفتوحة يعني تتبع الأم لوليدها بعد فراره واختفائه عن نظرها، والصحيح أن يقال: (على إثره) بهمزة مكسورة، أي عقب فراره مباشرة، وقد تكرر هذا الاستخدام ثانية في ص47 في سياق مشابه، والصحيح على خلافه كما أسلفت.
في ص 15 نقرأ: (يقلب بين يديه الجنين ذا الأربعة أشهر) والجنين وصف للحمل ما دام في بطن أمه، كما في الآية الكريمة وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ، فإذا وضع الحمل فهو: وليد، رضيع، طفل، صبي... ولو قالت الوليد أو الرضيع لكانت إحداهما أليق بسياق النص.
وما دام الشيء بالشيء يُذكر فمن المهم أن نبيّن أن نص (ثلاث على طريق) قد أثقل متنه بشخصيات كثيرة، لا يحتملها في العادة نص قصير مثله، فهنا: المعلمة، الرجل وزوجه، الطفل المندفع خارج المنزل، عاصم، الفتاتان المرتديتان ثوبين أزرقين، وشخصيات هامشية هن: التلميذات اللواتي لوحن بأيديهن لمعلمتهن، والوليد أو الرضيع المذكور آنفاً، وهذا العدد من الشخصيات كثير على نص قصير كهذا.
في نص (طرب وحرب وبرتقال) ص18هناك شبه تعطيل للضمائر، حيث كُررت لفظة السيارة مرتين في سطر ونصف السطر، ولو قيل : (ترجل منها) بدل ذكر السيارة مرتين لكانت أبلغ وأليق بسياق النص، لحضور الكلمة ومدلولها في ذهن القارئ، بما يرجح استخدام الضمير على التكرار غير المبرر لتأكيد و غيره.
في الصفحة التالية من ذات النص استخدمت القاصة حرف التحقيق (قد) في سياق تخميني، لدى قولها : (وقد سقط على إثر الغارة عديد من القتلى والجرحى)، و(قد) إذا دخلت على الفعل الماضي أفادت التأكيد، وإذا دخلت على الفعل المضارع أفادت التقليل، والسياق هنا تقديري لا تأكيدي، ولو قالت: وسقط على إثر الغارة عدد من القتلى بدون (قد) لكانت العبارة أصوب.
في نص (مارد) ص22 تجيب الأم طفليها المتشوقان لشقيقتهما القابعة حملاً في بطنها؛ فتقول : (مها تحب كليكما)، ولو قالت: تحبكما لكانت أولى. وفي الصفحة التالية تخاطب (حياة) طيف طليقها، الذي ما انفك يلاحقها، فتقول على لسانه: (لن تكوني لرجل آخر سواي)، والمفردتان الأخيرتان بمعنى واحد، فإما آخر وإما سواي، لأن إحداهما تغني عن الأخرى.
وفي ذات النص ص24 تخاطب (حياة) طيف طليقها فتقول: (لأنك رجل لديك خيارات أخرى إن بمقدورك أن تتزوج)، والزج بهذا الحرف الناصب المؤكد لما بعده زيادة لا يقتضيها المعنى ولا سياق الكلام، والاستئناف بدونه أولى بسياق النص وسرديته. وفي ص25 من ذات النص تقول: (كنت آنذاك أتخيل أنها ابنتي)، ولو قالت: كنت أتخيلها ابنتي لكانت أبلغ.
في ص34 يجيء نص (صديقتي التي) وهو نص أنثوي يتحدث عن هموم وشجون نسوية، وفيه نقرأ: (فأخالك تحسبينني كتاباً مفتوحاً)، وفي ص46 كرّرت ذات الكلمة بألف مفتوحة : (أخالها تسيل في حلقك) والكسر أشهر، وبعض اللغويين يعد الفتح من الأخطاء اللغوية الشائعة، وكنت ممن يعتقد صحة ذلك، حتى نُبهت إلى صوابية الفتح بحسب (المنجد في اللغة) فكان في نفسي من (المنجد) شيء! لأن العلماء لا يحتجون بالكثير من تقريراته، ولهم عليه مؤاخذات، ولكن أبا منصور الأزهري أثبت الفتح في (تهذيب اللغة) وهو حجة ولا شك، وعليه فلا غضاضة من استخدام الفتح.
في ص55 نقرأ: ((ضرَبت بكلتي يديها على طاولة الطعام)، وإعرابها لكلتا مجرورة بالياء لدخول حرف الباء عليها لا يكون إلا باقترانها بضمير، كما لو قالت: ضربتها بكلتيهما، أما خلاف ذلك فيقال: ضربت بكلتا يديها طاولة الطعام، دون إقحام لحرف الجر (على)، وما قيل هنا ينطبق على ما ورد في ص65 في قولها : (بكلتي يديك)) والصحيح بكلتا يديك. وفي آخر ذلك النص تقول : (لكنني أحبها مثل ما أحب أمي) وجملة : (مثل ما أحب أمي) أراها زائدة، ويغني عنها كاف التشبيه مقرونة باسم الأم لتكون: لكنني أحبها كأمي.
في ص63 تطالعنا المجموعة بنص جديد صيغ عنوانه من فعل أمر، كتب على النحو التالي : (أخرج يا سعيد)، والصحيح أن فعل الأمر لا يهمز كما في مثل هذه الحال. وفي هذا النص أيضاً نقرأ: (في تلك الليلة التي أعلم علم اليقين أنك لم تنسها قط)، ولو قالت: أعلم يقيناً أنك لم تنسها قط؛ لكانت أولى. وفي ذات الصفحة يجيبها: (أنا لست مفسراً للأحلام)، ولو قال: أنا لست مفسرَ أحلام، لكانت أولى وأخف، لتحرّرها من الألف واللام المثقلتين للجملة.
بقي أن نشير إلى علامات الترقيم غير المتراتبة وفق قانون التحرير العربي، فعلامة التعجب مثلاً تسبق أختها الكبرى علامة الاستفهام، وأختهما الصغرى الفاصلة تجيء بعد إحداهما والصحيح احتجابها، كما أن صف نصوص المجموعة وتنضيد كلاماتها وحروفها لم يكن متقناً، لوجود فواصل وتقارب بين المسافات الواقعة بسياقات النص التي لم تنضبط كما كان ينبغي لها أن تكون. في (سرداب التاجوري) نصوص مضيئة بمتعة قص سردي شيق، قضيت معها وقتاً ممتعاً، لم تعكره عدسة مجهري الناقدة، راجياً أن يجد فيها القارئ متعة تشبع نهمه للقص كالتي وجدتها.
الأحساء