ويبدو أنني أيقظتُ فتنةْ..
وأن جميع أفراد القبيلة غاضبونَ.
إذن:
فمَن لي هاهنا، يا عروةَ بن الوردْ ؟
****
رأينا في المساق الماضي ضبابًا يلفّ بعض الأذهان في رؤية اللغة، عاميّتها وفصحاها، عمدًا أو سهوًا. وها قد آن أن يُفهم القول: إن وجود العاميّة شفهيًّا شيء وتحويلها إلى لغة مكتوبة وأدب مشاع شيء آخر، مختلف. ذلك أن اللغة حين تتحوّل إلى لغة مكتوبة تصبح لغة رسميّة، لها أدبها وثقافتها واستقلالها، وتلك خطورة العامّيّات اليوم. فلا أحد ينكر أن درجات من العامّيّة كانت قائمة على ألسنة الناس على مرّ الزمان والمكان، لكن ذلك لم يسبق أن مُهّد له- في شِبه تخطيط- ليصبح أدبنا الأوّل والأكثر نشرًا وترسيخًا بين الناشئة، إلاّ في العصر الحديث. وقد استمرّ الأمر في تصاعده، ووُظفت في سبيله كل وسائل الاتصال الإعلامي والتقنيات الحديثة، وجيّشت له جيوش.. وما زلنا ندب على هذا الدرب، لنصل إلى هاويتنا الجميلة، إن عاجلاً أو آجلاً.
إن تواصلنا مع التراث، وتواصلنا مع بعضنا، عربًا ومسلمين، وتطلّعنا إلى الوحدة والمستقبل، كل ذلك يستدعي أن ينهض التعليم والإعلام بمسؤوليّاتهما، لتقليص الهوّة التي تفصل العربي عن لغته الأُمّ، إلاّ إذا رضينا أن نُخرب بيوتنا بأيدينا!
نعم، اللغة تتطوّر، وتعصف بها رياح الحياة والتحوّلات، وتعصف بنا معها، لكن الاستسلام إلى ذلك هو ما لا أراه بحالٍ من الأحوال.
ونعود إلى السؤال الراهن مع شعراء العامّيّة، وكنّا قد ألمحنا إلى فحواه من قبل: ما دام الشاعر لن يأتي بجديد يُذكر في تجربته- لأن لغته أضعف من أن يتوكأ عليها لتحقيق ذلك- وهو في الوقت نفسه قادر على الفصيح لغويًّا، فلماذا يربط نفسه بالعامّيّة؛ فيدجّن كلمته، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويكتب على نفسه أن يصبح نسيًا منسيًّا بعد حين من الوقت؟!
ما هذا التقشف في الطموح؟! بل أيّ خيبة إبداعيّة بعد هذه؟!
أمّا على مستوى الإنفاق في سبيل العاميّة، فما أظنّ عاقلاً في حاجة إلى أن نطيل به الحديث للإقناع بسلبيّات ما يحدث على اقتصاديّات الفرد والمجتمع. كيف وبذخ الصرف على العامّيّة وشِعرها وطقوسها قد بلغ اليوم حدًّا لا يُصدّق؟! وهذا رصيد استثماري مضاف في ميزانية التلهية والعبث بمقدّرات الأُمّة الماليّة، ينضاف إلى ما تقدّم من ميزانيات العبث بمقدّرات الأُمّة اللغويّة والاجتماعيّة والثقافيّة. يأتي تبذير تلك الأموال الطائلة في غير محلّها على الرغم ممّا يراه كلّ ذي عينين من وجوه الصرف الأَولى في بلداننا النامية، ومن ضروب التنمية المعطّلة، التي كانت بتلك المبالغ أحقّ وأجدر. ذلك أن الإنفاق على بيوت الشَّعر وقاطنيها كان أَولى وألزم من الإنفاق على بيوت الشِّعر وقارضيها! بل لقد كان غير الشعراء من المبدعين في هذا العصر، ذي الضرورات العلميّة والتقنيّة، أحرى بالإنفاق والتشجيع والدعم من الشعراء ومن تبعهم من الغاوين.. فإنْ كان، ولا بُدّ- ولن تدع العربُ الشِّعر حتى تدع الإبلُ الحنين- أفما كان أضعف الإيمان يقتضي العدل بين: (الشِّعر)، و(العِلم).
وهكذا، فإزاء كلّ السلبيّات التي تتمثّل في طوفان شعرنا الشعبي اليوم، وما لفّ لفّه من نشاطات، لا أجد بي طاقة إلى نفاق الرأي الغزالي- نسبة إلى أبي حامد الغزالي، في كتابه (ميزان العمل)- الذي بلغتْ به الحكمة، التي يُغبط عليها!، إلى القول بأن للرأي لديه ثلاثة أقسام:
- رأي يشارك فيه الجمهور فيما هم فيه.
- ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد.
- ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه، لا يُطلع عليه إلاّ من هو شريكه في اعتقاده.(1)
كلاّ، ذلك ما لا طاقة لي به، لا أخلاقيًّا ولا علميًّا. ولأن الأمر جدّ تحوّليّ، وشموليّ، في شأن نشر العامّيّة، فإنها لم تعد تكفي مدرسةُ الكبار للشعر العامّي بل أُنشئت مدرسة للأطفال من (شاعر المليون)- للبنات والبنين- كي تترسّخ هذه المدرسة العاميّة، لغويًّا وأدبيًّا وقيميًّا! لأن ربما كان الجيل الحالي جيلاً عابرًا، والنظرة المستقبليّة تتطلب استراتيجيّات استباقيّة كتلك، من أجل أجيالنا القادمة! ولا يُستبعد غدًا أن تُنشأ (مدارس أخرى لمحو العربيّة ونشر الأمّيّة!)، تخصّص للكبار من جيل التعليم الذين فاتهم الركب، حتى يعودوا للأميّة قبل فوات الأوان! يأتي هذا وفق رؤية عروبيّة ثاقبة، ولاسيما في ضوء معدّلات التعليم المزدهرة، والثقافة الإنتاجيّة المضيئة، ذلك أن معدّل الالتحاق بالتعليم في الدول العربيّة لا يتجاوز 21.8%، فيما يصل في كوريا الجنوبيّة إلى 91%، وفي أستراليا 72%، وفي إسرائيل 58%.. كما أن هناك- بحمدالله- كتابًا عربيًّا واحدًا، لا ثاني له، يصدر لكل 12 ألف مواطن عربيّ، فيما يصدر كتاب لكلّ 500 إنجليزيّ، ولكلّ 900 ألمانيّ، أي أن معدّل القرّاء في العالم العربي- عدا قرّاء المجلاّت الشعبيّة طبعًا!- لا يتجاوز 4% من معدّل القرّاء في إنجلترا. ذلك ما كشف عنه تقرير (مؤسسة الفكر العربي) السنوي حول التنمية الثقافيّة. (انظر: صحيفة (الوطن)، الثلاثاء 6 ذو القعدة 1429هـ).
ولقد آتت تلك الجهود الشعبيّة ثمارها الحنظليّة في أوساطنا الاجتماعيّة. ففي أكثر من مناسبة أحضرها- وبعضها في مدارس أو مؤسّسات تعليميّة- يحزنني أن أرى براعم تُقدَّم إلى الناس لتُقدّم قصائد نبطيّة! طفل ما زال يتعثّر في لثغة الطفولة يُلبس لبوس شاعرٍ نبطيّ، ويقدّم إلى الجماهير بصفته مشروع شاعرٍ عامّيّ للمستقبل، وزهرة من زهرات غدنا الواعد.
ما هذا؟!
يأتي فيُلقي قصيدة عجفاء لُقّنها من ذويه أو معلّميه، بكل فحيحها القَبَليّ، ومعانيها المعروفة، تارةً: فخرًا، وتمدّحًا، وتبجّحًا فارغًا، وتارة: قدحًا، وعنجهيّة قَبَليّة. والكبار يصفّقون، فخورين، فرحين بشبلهم القادم من ذاك الأسد، والصغار ينظرون إلى هذا الشبل الواعد على أنه نموذج التلميذ الطُّلَعَة، والشاعر الفحل الذي سيحتلّ بنجوميّته القنوات الفضائيّة، بوصفه فارسًا في مضمار العامّيّة المجيد، فوق كلّ أرضٍ وتحت كل سماء! أنا لا أذكر في جيلي أن هذه الظاهرة كانت موجودة. والأكثر غرابة أن هذا أصبح مستساغًا حتى في حفلات المدارس الرسميّة، التي يُفترض أن تخضع لإشراف تربويّ من إدارات التعليم.
فأيّ تعليم هذا؟ أتعليم العامّيّة حتى في مدارسنا؟ يبدو- عمومًا- أن كثيرًا من تعليمنا العربي هو تعليم جهل.. وعلى أصوله!
أيّ عقل نسعى لبنائه لدى أبنائنا؟ أم أيّ تربية ملتوية بُسط لها المهاد بكلّ منعرجاته؟! أيّ تعطيل للعمليّة التعليميّة السويّة، من خلال إعاقة تعلّم اللغة العلميّة، بما يترتّب على ذلك من إعاقات فكريّة ومعرفيّة؟ أيّ نظرة قاصرة، تلك التي تسود بيننا دون سائر البشر، إلى طبيعة اللغة نفسها، ووظيفتها في الحياة، وضرورتها- من حيث هي وعاء فكرٍ وهويّة- إذ نفصل بين اللغة وبين مشروعنا النهضوي، علميًّا وتقنيًّا وثقافيًّا؟!
إنه خذلان معرفيّ وثقافيّ، ظلّ العرب يَتَتَعْتَعُون في مَهَامِهِهِ مئة عام، وها هم هؤلاء اليوم يرتدّون عن كلّ مبادئهم وقِيَمهم التي تنادوا إليها قبل بضعة عقود: «من الشام لبغدان، ومن مصر إلى يمن، إلى نجد فتطوان»!
****
1) انظر: ابن طُفيل، (1966)، حيّ بن يقظان (ويضمّ رسالة ابن سينا وابن طُفيل والسُّهروردي)، تح. أحمد أمين (مصر: دار المعارف)، 63- 64. وهو منهج ربما كانت له وجاهته لدى الغزالي في شأن التأويل للنصّ الديني؛ بل لقد عاب ابن رُشد على الغزالي إفشاءه ما يُعدّ من المضنون به على غير أهله، (انظر: (2002)، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتّصال، تقديم وإشراف: محمّد عابد الجابري (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة)، 113- 114)، وإنما ضربنا قول الغزالي هنا مثلاً لمن يتوسّع في تلك المداجاة حتى يصبح الأمر محض نفاق، وفي مختلف شؤون المعرفة والثقافة.
******
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
عضو مجلس الشورى - الرياض
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net