في ذات ليلة مقمرة.. المكان يعمُّه السكون، يبدو على أهل الحي أنهم لجئوا إلى النوم.. وتحت ضوء القمر كانت تحدث نفسها عن تلك السنين التي خسرتها مع شريك حياتها.. زفرت زفرة عميقة وقد قبضت أسنانها على أصبعها الإبهام وهي تسترخي على متكأ بجانبها وتقول: آآآه ليت أهلي لم يضعوني على هذه المكانة العالية.. إنهم هم السبب.. كانوا دائما يرددون (لا يهمك اطلبي ما تشائين وقولي ما تشائين وإذا لم يعجبك الوضع فأبوابنا مشرعة نحن أعلى مكانة منه وأحق بكثير لا تهزمي نفسك أمامه) وهي غارقة في بحر مليء بهموم دنياها وقساوة قلبها في تلك السنين تفكر عن ماضيها، وعما سيكون مستقبلها وأبنائها، ويبدو على عينيها بريق لم يلاحظه أحد منذ أن بدأت بالتفكير.. نهضت سعاد بهدوء رفعت السماعة وهي تدير أقراص الهاتف..
- ألو.. أهلا ليلى.. كيف حالك؟
- مرحبا سعاد، أنا بخير الحمد لله.. أسأل عنك دائما وعن ابنيكِ خالد وشعاع بعد غيابك.. فأنا سعيدة جدا باتصالك يا سعاد لأن لك فترة طويلة لم تتصلي بعد.
- إييييه يا ليلى.. هذه الدنيا وأحوالها، تجلب لكل منا هما أقولها والحزن والهم يقتلني..
- ماذا هناك يا سعاد فضفضي لي.. فأنا صديقتك وسأساعدك مهما صعبت الظروف.
بعد إصرار طويل وعميق علمت ليلى الحكاية
انه بدأ بشجار قوي بين سعاد وزوجها كالعادة، وفي هذه المرة لم يتمالك نفسه فخرج من المنزل غاضباً من تصرفاتها.. اتصل بها فقال اذهبي إلى أهلك، وذلك لعنادها الشديد معه وتحكمها في بعض الأمور.. كذلك أنها لا تملك العطف والحنان الذي يمتلكه الأمهات إلا بعد كلمة قالها ابنها خالد انه سيعود إلى أبيه ويتركها، فذاقت ولأول مرة طعم العطف وكأنها سمعت صوت الحب وهو يداعب قلبها المكسور.
لكن سرعان ما تراجعت وتأسفت على كل ما مضى وأنها كانت تقسو كثيرا على أبي خالد الذي كان لا يبادلها بالمثل بل كان يعاملها بالطيب، يقدم لها الحنان والوفاء، يعاملها باللين عكس ما كانت هي قاسية القلب عليه.
في دهشة.. قالت ليلى؟
- سعاد.. لِمَ كل هذا؟.. لم أصدق أنك قاسية إلى هذا الحد.
أجابت سعاد - بعد وهلة وهي تتمتم واتضح على صوتها الضيق-: إنه الجهل يا صديقتي.. كم لعب بي مرة ومرات كنت فعلا جاهلة لا أستحق هذا الحب والعطف والروح الجميلة من أبي خالد.. أذكر أنه دائما إذا رآني غاضبة من شيء ما لا أسميه غضبا، بل أقول إنه (الدلع) وأي دلع كان يخرج حتى لا أراه ويزداد غضبي بل (دلعي) حتى أهدأ ويتلاشى شيئا فشيئا فيعود والابتسامة تعلو محياه... آآآه يا ليلى إنهم حلَّقوا بي بعيدا بعيدا.. أحسست أنني أمتلك الدنيا وما فيها كنت حقا مغرورة ليتني وضعت حاجزا بيني وبين كل من هدم حياتي..
بعد كلام طويل بينهما.. ودعت سعاد ليلى وأغلقت السماعة.. كان ليل سعاد في تلك الليلة من أصعب وأتعس الليالي حتى أنها لم تنم..
مرة في دجى الهموم، ومرة في دهاليز الصمت، ومرة ومرة،،، حتى انجلى ستار تلك الليلة وبان الصباح وعيناها تتناثر أدمعا وهي تتقاطر أسفا على تصرفاتها غير المعقولة.
بقيت على هذا الحال وهي تتجرع مرارة الندم.. مرَّ شهر كامل، وفي ذلك اليوم كان هاجسها يحدثها أن هناك شيئا سيحدث لكن خيرا.. إن شاء الله.. في الساعة الرابعة عصرا سمعت صوت خالد وهو يجري (ماما.. ماما بابا يقول اعط هذي الورقة لامك) .. علمت سعاد ماذا كان يحدثها هاجسها منذ الصباح وشريط ذكرياتها بدأ يتقلب بسرعة هائلة.. الدنيا أظلمت في وجه سعاد.. كل شيء تحطم أمامها.. جميع نوافذ الأمل أغلقت حتى أنها لا تكاد ترى ابنها خالد بعد ما ارتمت على الأرض من شدة الخوف.. ويداه الناعمتان تداعب خصلات شعرها.. فتحت سعاد الورقة فكان عكس ما كانت تفكر فيه.. ابتسمت.. تغير وجه سعاد فصار بهيجا مشرقا
انها رسالة، حب، وود، وتسامح من زوجها
أبا خالد.. الطيب.. الذي كان لطيفا معها في كل حياتها سامحها من أجل طفله ومستقبله ليعيش حياة جديدة سعيدة ملؤها الحب والإخلاص والتضحية في منزله بين أطفاله في سعادة وأمن واستقرار.. عزمت سعاد أن تكون نعم المرأة في حياتها، وبالفعل عاد كلُّ من الطرفين سعيدين ليعيشا حياة مطمئنة.