كان المنهج الاستشراقي تقليدياً مباشراً في بداياته، ولم تكن جهوده تتعدى حوض البحر الأبيض المتوسط والهند، وبلاد الشرق، عند أصحاب العقائد المتوارثة، وكان رواده من الرحالة ينشرون دعوتهم بطرق بدائية، قبل أن تظهر مدرسة باريس صاحبة الاتجاه العلمي1795، بريادة (سلفستر دي ساسي)، الذي حصل على لقب (عميد المستشرقين)، وتولى إدارتها في عام 1833، ومنها تحول الاستشرق إلى الناحية العلمية، واهتم بحياة الأقليات من الشعوب العربية على وجه الخصوص، مثل الشيعة والدروز والإسماعيلية...، فاهتم دي ساسي بأدب الدروز في لبنان والجبل، في مجلدين ضخمين، عكس فيهما حياتهم ومذاهبهم ومعتقداتهم...، وأسس في هذه المدرسة اللغة العربية بشقيها (العامي والفصيح)، وأجاد فيها الكثير من طلابه، مثل المستشرق لويس ما سينيون، الذي تأثر بكبار المستشرقين والتقاهم في الجزائر، مثل جولد زيهر، وسنوك هور خرونية، الهولندي، صاحب كتاب (الحج إلى مكة)، وقد دخل مكة باسم مسلم (الحاج عبد الغفار) وطرد من مكة عندما انكشف أمره جاسوساً حاقداً على العرب والمسلمين- على حد تعبير الالدكتور قاسم السامرائي-، وكان ما سينيون متأثراً ومتعاطفاً مع الشيعة محباً للتشيع والتصوف، فألف كتابه المشهور (آلام الحلاج شهيد التصوف)، لكنه بالغ كثيراً في تصوير تلك الطبقات، مما انعكس سلباً على أبنائها فيما بعد، من ناحيتين: الأولى، جاءت هذه الصورة ذريعة للاحتلال، خاصة في الحرب العالمية الثانية، فهذه الطبقات مهضومة تجب مساعدتها، فالضرب في عاشوراء نتيجة القهر!، والثانية صورة أخلاقية لما يدور في داخل المجتمع من عادات ضد المرأة، وطبقات الكادحين وتخلفهم...، وقد أثر في المستشرقين الذين جاءوا من بعده، وخاصة المستشرق (برنارد لويس) في مؤلفاته التي منها (أصول الإسماعيلية، والحشاشين، والأصولية، والإسلام والديمقراطية) لكن هذا التوجه الديني يصب في خدمة السياسة، مهما كان الأمر، فالدين السبيل الأقرب لتوطيد الفكر السياسي، وتسهيل بلوغ الهدف السياسي، وهذا أمر معروف في تاريخ الشعوب والأمم منذ القدم، ولن نتعرض للردود التي اتهم بها المستشرقون، فلذلك مجال آخر عند الدارسين لهذا العلم.
وقد اهتم الاستشراق بثقافة البلاد العربية منذ أن بدأ نابليون بونابرت حملته على مصر، 1797م، لكن زاد الاهتمام بعد أن اثبت العلماء الذين صحبهم نابليون معه في الغزو جدارتهم في اكتشاف التراث العربي المنسي، وتخلف هذه البلاد عن الصناعة بوجه عام، وكان لاكتشافات العلماء الغربيين دور كبير في معرفة المواقع والتراث والتعامل من خلاله مع هذه الشعوب المنسية على مدى قرون من الزمن، فالآثار والمخطوطات الحبيسة في دور العبادة وعند الأسر تشكل الشيء الكثير لمعرفة التراث والتخاطب مع أهله من منطلقاته الثقافية، كالشعر والروايات الشفوية والأساطير الشعبية التي كان للمستشرقين السبق في إخراجها من مكامنها، ولذلك كان للبعثات العلمية في عهد محمد علي كبير الأثر في ازدهار الاستشراق، فقد أدرك المبتعثون قيمة العلم، بجانب إدراكهم للتطور الذي بلغته فرنسا، بشكل خاص، وأوروبا بشكل عام، وقد طلب المستشرق (جومار) المشرف على تلك البعثات بقاء الطلبة الذين أنهوا دراستهم مدة أطول للتزود من المعرفة الثقافية خارج المنهج العلمي، وأخذهم إلى جهات من فرنسا للاطلاع على ما وصلت إليه هذه البلاد من تقدم مفقود في بلادهم (11)، واشتد الانبهار بحضارة الغرب مقابل تخلف الشرق، فكتب عدد من التنويريين عن تلك الحضارة، رفاعة رافع الطهطاوي في كتابه المشهور (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) (12)، وعبد الكريم الجهيمان في كتابه (ذكريات باريس) (13)، إضافة إلى النصوص القصصية التي كتبها العرب عن أوروبا، مثل (الحي اللاتيني) ليوسف إدريس، و (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم...، وغيرها الكثير من الانطباعات الشخصية، وكلها تصب في مصب واحد، ذلك أن بلاد الغرب المتقدم- بلا شك- لا يقارن ببلدانهم المتخلفة في ذلك الوقت، وهذا التخلف قاد الكثير من الإخباريين، من الضباط العسكريين والجواسيس الرحالة إلى اجتياز الصحراء والأوحال لتمهيد الطرق للغزو، ودراسة أحوال أهل تلك المناطق، ووصفهم وصفاً دقيقاً لأصحاب القرار في بلدانهم، ويتوافق هذا المبدأ مع التقارير التي اطلعنا عليها من المندوبين في الخليج العربي، وكلهم يسمونه (الفارسي)وهذه التقارير التي وضعها الرحالة التقليديون تبناها المسئولون، بالدراسة النظرية ومن ثم التطبيق، ففي سنة 1841م، أرسلت حكومة الهند البريطانية الليفتنانت (جوب) من سلاح المدفعية البريطانية في الهند، إلى منطقة الأحساء والقطيف لرسم طريق احتلال محتمل تقوم به بريطانيا عن طريق البحرين المحتلة، وكتب تقريره، وأشار فيه إلى دفن بعض الأنهار الصغيرة، وتوسيع الطرق بين البساتين والمزارع المنتشرة في كل من الأحساء والقطيف، كما وصف الحياة الاجتماعية، وما فيها من أمراض وجهل...وكادت تلك الحملة أن تتم، لولا ظروف حالت دون ذلك، وخاصة شراسة البدو المقيمين على تخوم هذه المنطقة (14)، كما تحدث الرحالة والعسكريون الذين زاروا المنطقة العربية، وخاصة منطقة الخليج عن أهمية هذه المنطقة بالنسبة لبريطانيا؛ ومعرفتها من جميع النواحي (علمياً واجتماعياً وثقافياً وجغرافياً وتاريخياً) وقد وضع الكثير من المستشرقين وموظفي السفارات والإرساليات كتباً في غاية الأهمية عن هذه المناطق، وأذكر-هنا- كتاب الموظف الرحالة ج. لويمر (دليل الخليج)، ويعتبر كتاب لويمر هذا من أهم الدراسات التي ظهرت في منطقة الخليج العربي، فيما يخص السكان والقبائل التي تعيش في هذه المنطقة المهمة في العالم العربي. وتعتبر هذه المعلومات التي أوردت بعضها، وتركت الآخر، لضيق مساحة البحث، من جهة، ولأنها معروفة عند الكثير من جهة أخرى، وقديمة عند البعض، إلا أنني وجدتها ضرورية للدخول في موضوع كهذا، وأنها النواة الحقيقية لصورة العرب في السينما الأمريكية على وجه الخصوص، مع أن الأوضاع الفكرية والسياسية والأنثروبولوجية قد تغيرت وصار التقارب العلمي أكثر والمعلومة أسهل في الوصول إلى أي مكان، من خلال الوسائل الإعلامية، إلا أن الصورة التي رسمها الرحالة المستشرقون في القرن التاسع عشر ما تزال تردد في وسائل الإعلام الغربي والأمريكي إلى اليوم!!.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244