من المدهش أن يكتشف القارئ أو الناقد المتأمل في أدب غسان كنفاني، أن هناك متسعاً لمزيد من الحديث، والقراءات التأويلية التي تضمرها نصوصه، لا سيما إذا ما حاولنا إسقاط المتغيرات التي آلت إليها القضية الفلسطينية على أدبه مع الحفاظ على الثوابت التراجيدية التي التقط غسان جوهرها، ورصد مساراتها بعقلٍ نيِّر فذٍّ، وأعاد إنتاجها إبداعياً، الأمر الذي أتاح لنصوصه الحياة والتجدُّد.
أعتقد أننا إذا ما حاولنا بشيء من الجرأة إعادة قراءة بعض نصوص غسان في هذا السياق دون أن نحمِّلها أكثر مما تحتمل سوف نكتشف أن الثوابت الجوهرية بمعانيها ودلالاتها العميقة التي قاربها فنياً ما زالت بالفعل هي هي، وراهنة حتى يومنا هذا، على الرغم من كل المتغيرات التي عصفت في المشهد السياسي والاجتماعي والأخلاقي الفلسطيني.
للبرهنة على ما ذهبنا إليه دعونا نتناول نصين من أهم نصوص غسان كنفاني، وأكثرهما شهرةً وهما: (رجال في الشمس)، و(ما تبقى لكم).
في روايته (رجال في الشمس) نجد (وجدان العار ممزوجاً بوجدان الفجيعة) كما يقول الناقد يوسف سامي اليوسف، وبالتالي يرصد غسان في هذه الرواية حقبة اللجوء، حيث نرى شخصيات الرواية مسربلةً بالعار الذي يسوقها نحو الموت الفاجع على تخوم الصحراء، وبدلاً من أن تتوجه نحو الغرب حيث تقع فلسطين، نراهم يتوجهون نحو الشرق، يداعبهم الأمل (بكروم الزيتون في صحارى الكويت). إنه إذاً نوعٌ من الفرار، أو الهرب نحو السراب بقيادة (أبو الخيزران) السائق المخصي الذي باعهم بأبخس الأثمان، سواء كان ذلك عن قصدٍ، أو غير قصد، وكانت النتيجة اختناقهم الفاجع في جحيم الخزان، دون أن يستجيب أحد لقرعهم جدرانه.
السؤال الآن: ما الذي تغيَّر على صعيد الثوابت، على الرغم من المتغيرات الكثيرة العاصفة التي عاشها الشعب الفلسطيني وقضيته التي ما زالت معلّقة منذ أكثر من أربعة عقود ونيِّف مرَّت على كتابة نصِّ غسان؟!
دعونا ننظر إلى الواقع بتجرُّد وحيادية، ولكن بصدق: ألم يزل الفلسطيني اللاجئ يشعر (بالعار ممزوجاً بوجدان الفجيعة)، سواء كان يعيش في مخيمات اللجوء، أو سهول كندا والأمريكيتين، أو في بلاد الصقيع في الشمال الأوروبي!
ألم يجد أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني اليوم أنفسهم، محاصرين في (خزان) غزة الجحيمي، يعانون كل أنواع الجوع والفقر والبطالة، والقهر والموت المجاني.. دون أي أمل بالخلاص، لأن العالم كله يصمُّ آذانه، ولا يريد أن يسمع صوت الاستغاثة، أو الرجاء، أو الاحتجاج؟!
أليس ثمة بين القيادات الفلسطينية من هو على طريقة (أبو الخيزران) بعض قيادات ما زالت تسوِّق الأوهام وتقود الشعب والقضية نحو حائط مسدود، بينما هي غارقة في كل أشكال وألوان الفساد؟!
أليست الشخصية الفلسطينية (مثل أبطال رواية غسان) ما زالت محكومة بشرطها الخارجي، وتسير نحو حتفها المحتوم؟
أليست الخلفية التاريخية (النكبة) هي العامل الأساسي في كل هذا الذل والهوان الذي يعيش الفلسطيني مرارته.. وألم تتجدَّد تلك النكبة بعد الهزائم المتتالية التي أوصلتنا إلى الاقتتال الداخلي بوصفه أشد وطأة من الهزيمة ذاتها؟!.
إذاً وعلى الرغم من كل المتغيرات التي حدثت، وباتت أكثر تركيباً وتعقيداً، إلا أن الجوهر ظل ثابتاً، وهذا ما التقطه غسان بشكلٍ مبكِّر. إن رواية (رجال في الشمس) بكل ما تحتوي عليه من عناصر درامية جوهرية، ما زالت صالحة بشكلٍ أو بآخر للتعبير عن الموضوع الفلسطيني ومأساويته، وهي قابلة لاحتواء المزيد من العناصر التي يمكن أن تغني شكلها بجملة متجدِّدة من الصور المتماهية بشكلٍ أو بآخر مع المناخات الراهنة، التي تتقاطع إلى حدّ كبير مع جذر المناخات التي صاغ غسان روايته على ضوئها.
ما تبقى لكم.. ما تبقى لنا
إذا كان الزمن بطلاً من أبطال رواية غسان كنفاني (ما تبقى لكم)، ممثلاً بساعة الحائط، وبساعة حامد، على اعتبار أن الموضوع الرئيس للرواية هو انفلات الفلسطيني من ماضيه، بما يحمله هذا الماضي من إحساس عميق بالوجع المعنوي - الروحي والعار الممزوج بعقدة الذنب.. هذه العقدة التي لا يمكن تجاوزها، أو تفكيكها إلاّ بتجاوز هذا الماضي الذي يجب أن يمر بالضرورة عبر فلسطين، باعتبارها المطهر.. أو طريق الخلاص.. وبهذا المعنى يبرز (المكان) باعتباره الصنو الآخر (للزمان) في هذه الرواية التي تجري أحداثها في غزة.. وتمر عبر فلسطين.. والسؤال: لماذا هذا الاختيار للمكان (غزة) حيث يواجه حامد علاقة (الدنس) التي تربط أخته (مريم) بزوجها (زكريا) (القسم المتعفن من الضمير الفلسطيني)؟! ولماذا يظلان منغمسين في (الدقات المعدنية الحازمة الجوفاء)؟!
هل كان غسان يرى في (غزة) خصوصية ما تختلف عن أي مكان أو مدينة فلسطينية أخرى؟! أم جاء اختياره لهذا المكان بمحض الصدفة؟!.. أسئلة ما كنا لنسألها لولا أن نضوج الظروف التي أوضحت أن لغزة فعلاً خصوصية تختلف عن أي مكان فلسطيني آخر.. مع ذلك، دعونا لا نقف عند هذه المسألة كثيراً، وننتقل إلى تفكيك الرواية، أو مقاربتها على ضوء المتغيرات التي لا تنفي الجوهر، لنرى الحصيلة التي يمكن أن نصل إليها.
إذا تتبَّعنا شخصية حامد في الرواية، نجد أن السمة الأساسية الطاغية على هذه الشخصية هي تمزقها الداخلي، وقلقها، وعدم استقرارها، وبالتالي لا يمكن لهذه الشخصية تجاوز تمزقها إلا بتمزيق الحدود (كم يذكرنا هذا بالمعابر المغلقة على الحدود مع غزة) وفرار حامد من غزة باتجاه فلسطين هو كما يقول الناقد يوسف سامي اليوسف (ليس توجهاً مكانياً فحسب، بل هو توجه زماني قبل كل شيء) بمعنى آخر هو قطيعة مع الماضي وتوجه نحو المستقبل، ولا بد لهذا التوجُّه أن يمر عبر (المطهر) أرض فلسطين، حيث تتم المواجهة لأول مرة بين حامد والجندي الإسرائيلي.
إننا إذاً أمام عدة عناصر وخطوط تتفاعل مع بعضها، لتكشف عن المرئي واللامرئي في هذه العلاقات المركبة، فمن جهة (الدنس) الذي يلوث العلاقة بين مريم وزكريا (على الرغم من زواجها الشرعي والقانوني) وحمل مريم الذي يُجهضْ، لأنه نتاج هذه العلاقة غير السوية والمدنّسة، ولأن هذا التشوّه يمس حامد من جهةٍ أخرى نراه يغادره، ويخلّفه وراءه.. وبالتالي فإن انتقاله المكاني.. هو أيضاً انتقال زماني من حالة إلى حالة أخرى أكثر تقدّماً. ولأن حامد يرفض الزمن الآسن الذي غادره، نجده يقذف بساعته ليتخلص من هذا الزمن، ومن ماضيه دفعةً واحدة..
من زاوية أخرى وعلى الرغم من اعتراف مريم في حوارها مع زكريا بذلك الدنس الذي يلوّث علاقتها به، فهي قلقة وغير مستقرة، لأنها ترتبط أيضاً بعلاقة الطهر التي يمثلها حامد من جهة أخرى، فهي في نهاية المطاف شقيقته.. فتقول: (خطواته واحدة واحدة أحصيها مع الدقات المعدنية المخنوقة في الجدار، أمامي، دقات النعش).
يقول يوسف سامي اليوسف: (إن تشبث حامد بالأرض هو تشبث بالطهر، في حين أن تمسك مريم بزكريا هو تمسك بالتلوث).
لذلك يشعر حامد بدفء الأرض، بينما تظل (مريم تعاني من دقات الساعة الباردة المغروسة في الزمن، أي تظل محرومة من الحرارة على الرغم من أن زكريا يقبع في فراشها).
إن إحساس مريم العميق بالتمزق نتيجة علاقتها الآثمة بزكريا.. هو نتاج عقدة الذنب التي يكررها غسان في رواياته، وهي هنا تشبه (غزة) المقتطعة بجسدها من بقية الجسد الفلسطيني.. والأرض الفلسطينية.
إن المسألة هنا تحتمل مثل هذه القراءة، فغزة المقتطعة من جسد الأرض الفلسطينية ليست حرة بذاتها، وإنما تعاني الشعور بالدنس الذي يبقيها في حالة من التمزق والقلق.. وعدم الاستقرار.
إن عقدة الذنب التي تعيشها مريم نتيجة سقوطها الآثم، يعيشها حامد أيضاً بشكلٍ آخر، (بسبب من خذلانه للأرض التي يرى فيها تجسيداً للطهر والتمنع عن الدنس). فحامد الذي يعاني من تبكيت الضمير بعد استشهاد سالم، تصدمه الحوارية مع مريم التي تذكره بأنه مجرد شخص عادي تافه (وإن كانت لا تقصد ذلك) تقول له: (دورك أنت؟ لماذا؟ أنت لم تفعل شيئاً، لقد قتلوا سالماً لأنه.. أنت تعرف سالماً على أية حال.. فلماذا يقتلونك أنت؟). يعرف حامد أنها تريد طمأنته، لكنها لم تعرف أنها حمّلته - من جهة أخرى - ذلاً جديداً (لماذا يقتلونك أنت؟) وكأنها تريد أن تقول له: أنتَ مجرد إنسان عادي.. بمعنى آخر أنتَ تافه يكمل حياته ويموت تافهاً، يموت رخيصاً.
ما أريد الوصول إليه أننا في عودة إلى الثوابت الجوهرية والمتغيرات العاصفة نرى أن الحوارات الجارية اليوم (سواء في غزة أو على مستوى الأطراف والمكونات الفلسطينية المتعدّدة) تشبه إلى حد بعيد هذه الحوارات التي صاغها غسان على لسان أبطاله، على الرغم من قلق وتمزق وانتماء وتخبط هذه الشخصيات وتناقضها وتراكبها، سواء من كان يعاني منها عقدة الذنب.. أو الدنس والتلوّث.. ومن غرق في هذا التلوّث حتى الحضيض مثل زكريا.. ومن حاول النهوض مجدداً مثل مريم.. ومن واجه مصيره.. وعمل قطيعة مع ماضيه مثل حامد.
ربّ قائل يقول: هذه قراءة سياسية، فيها الكثير من الإقحام الذي لا يحتمله نص غسان، لكننا إذا تمعنّا جيداً، يمكن أن نتلمّس الكثير من الإسقاطات التي تصلح لإعادة قراءة النص وفق هذا المنظور.
ألا يوجد في الأراضي الفلسطينية وبين الفلسطينيين، وتحديداً في غزة اليوم تياراً يمثّل التلوث الذي يرمز له زكريا بفساده وارتباطاته المشبوهة.. وهو غارق حتى النخاع في هذا المستنقع الآسن؟.
من جهة أخرى ألا يوجد تيار شبيه بما تمثله مريم من علاقة ملتبسة تنوس بين الدنس والطهر في علاقتها المركبة مع ما يمثله زكريا من جهة وما يمثله حامد (من طهر) من جهة أخرى؟. ألا يوجد تيار شبيه بما يمثّله (حامد) الذي أراد القطيعة مع ماضيه.. والخلاص من حالة التمزق وعقدة الذنب.. ومواجهة مصيره باحتضان الأرض رمز الطهر.. ومثاله الأعلى في ذلك سالم المقاوم الذي استشهد من أجل قضيته؟.
لكأن الأمس يشبه اليوم، لكن الراهن أكثر تعقيداً وتركيباً.. وأكثر تراجيدية، فالرواية الفلسطينية ما زالت مفتوحة ولم تكتمل فصولها بعد.