(كان يوماً طويلاً ومزعجاً)، قال هذه الجملة مصحوبة بتأفف متواصل وهو في طريقه إلى داخل الشقة بعد أن أغلق الباب خلف آخر زائر.. لم تمهله (نوال) حتى يصل إلى حيث هي لتشعره بأنها دائماً معه.. حتى وإن كان يكلم نفسه، فعليه أن يتعوّد على وجودها المكثّف من الأيام الأولى للزواج.. قالت بصوت مرتفع:
- ماذا أزعجك يا فيصل في هذا اليوم؟ لقد كان حافلاً بوجود عدد من الأقارب والأصدقاء.. وكما جرت العادة فلا بد من التهنئة في مثل هذه المناسبات، خاصة وأنا عروسة جميلة.. أتت جملتها الأخيرة مصحوبة بدلال خجول تظلّله ابتسامة عريضة.
لم يستطع أن يتجاهل ابتسامتها وإن كان بادي التذمر والضجر.. وغير قادر على إخفاء شعوره، فابتسامته مقتضبة لم تلبث أن اختفت ليعود لعبوسه، مما دعاها إلى سؤاله مرة أخرى.. عن سبب هذا العبوس الواضح على محيّاه رغم أنهما ما زالا في الأيام الأولى من الزواج وتساءلت بحدة:
- هل أنا السبب يا فيصل؟
- أبداً يا عزيزتي ولكن كان مفترضاً أن يتاح لنا مزيد من الفرصة لنتعرّف على بعض أكثر.. دون مساعدة من أحد ألم تسمعي؟ لقد تبرعت أختك برواية جانب كامل من حياتك وخاصة المعتم منها.. كما تبرعت أمي بقراءة أدق تفاصيل حياتي لدرجة أنها بررت سبب رفضي الرضاعة من أم راشد بأني كنت (بطران) حتى وأنا رضيع.. رغم أن الواقع خلاف هذا فقد كنت أكره رائحة صدر أم راشد.. نعم كانت سيّدة بدينة لا تعتني بنظافة جسمها، وأنا كنت متحضّراً حتى وأنا رضيع أليس هكذا يا روحي..
- واضح يا حبيبي، ولكن دعهم يقرروننا كما يريدون، ونحن سوف نقرأ أيامنا وذكرياتنا بطريقتنا، وسيأتي يوم يقرؤنا أبناؤنا بطريقة مختلفة.. أليس كذلك؟
لم يكن الوقت يسمح بالمزيد من النقاش.. فغداً سيكون اليوم الأول لعودة فيصل للعمل بعد إجازة الزواج، وعليه أن ينام..
وضع رأسه على المخدة بعد أن أطفأت نوال الأنوار.. وأخذ يستعيد ملامح الطريق الطويل الذي قطعه حتى استطاع دفع المهر ومصاريف الزواج واستئجار هذه الشقة الصغيرة في هذا الحي المتواضع وتأثيثها باللازم والميسور ليبدأ مع نوال مسيرة حياتهما الزوجية.
بدت تعبر مخيلته العديد من الصور البعيدة. حاول التقاط إحداها.. أخذ يمارس كل تقنيات التصور الخيالي ليتحسس ملامح الصورة التي تبدو بعيدة ولكنه يلمح عمه فزاع ينادي وسط القرية.. ترى ماذا يقول؟ لقد وقف على دكة محل الشيخ عثمان وأخذ يعلن عن زواج فيصل من ابنة عمه نوال، وأن على أهل القرية رجالاً ونساءً التوجه إلى منزل الشيخ أبي فزاع لترتيب احتياجات الزواج.
أخذ أهل القرية بالتوافد إلى منزل أبي فزاع، حيث توجه الرجال إلى المكان المخصص لهم وتوجهت النساء إلى المكان المعد لهن..
كان فزاع شهماً وذا صوت قوي، وحال تكامل أهل القرية وقف خطيباً فيهم. بدأ حديثه بشكرهم على هذا الحرص والتواجد في كل المناسبات التي تمر على القرية وأبنائها ثم هنأ العروسين وطلب من الحضور أن يقوم كل واحد منهم بالتهنئة على طريقته، داعياً والده الشيخ أبا فزاع أن يكون أول المهنئين.. لم يطل الشيخ أبو فزاع، فقد اكتفى بكلمة مبسطة وقدم مفتاح إحدى فلله كهدية للزوجين لينسجا فيها عشهما الجميل.. ثم بدأ الأقارب حسب التسلسل العائلي بتقديم تهانيهم التي تراوحت بين الشيكات ذات المبالغ الكبيرة من الأعمام والأخوال وأبنائهم والمبالغ النقدية الرمزية من بقية أهل القرية.. وفي الجانب الآخر كانت هياء تمارس دور فزّاع لدى النساء، حيث شكرتهم وبدأت تجمع تهانيهن للعروسة وكانت التهاني عبارة عن العديد من الحلي الثمينة والمعدات الكهربائية التي يحتاجها المنزل الجديد.. قامت إحداهن وجمعت هذه الهدايا في صندوق.. أخذ فيصل يتابع هذا الصندوق. تاه الصندوق.. يحاول استعادة الصورة..
يحاول إخبار عمه فزَّاع بما جرى للصندوق ولكن تاه هو الآخر..
أخذ يصرخ..
- ضعيه هنا.. ضعي الصندوق.. الصندوق هنا..
أفاقت نوال على صراخه.. حاولت إيقاظه من هذا الكابوس المزعج.. آفاق.. ماذا.. أين.. متى..؟
- ماذا بك يا فيصل؟..
- نعم.. كنت أحلم.. كم الساعة الآن؟
- الساعة تقترب من الثامنة صباحاً قم واستعد للعمل..
- إذاً عليك بتجهيز الإفطار ريثما استعد. دخلت نوال المطبخ لإعداد فطور سريع يغيّر به ريقه قبل أن يمارس عادة التدخين الكريهة التي يصر على الإكثار منها كل صباح.. وضعت (إبريق) الشاي على النار بينما بدأ فيصل بارتداء ملابسه وكان واضح الهمة فكان في شوق لرؤية زملاء العمل، ولديه الكثير من الأشياء التي سوف يخبرهم بها عن زواجه وسعادته مع زوجته.. جرس الباب يدق وبقوة.. طلب من نوال، أن ترى من الطارق في مثل هذا الصباح.. علّه يكون الشيخ أبا فزَّاع أو العم فزَّاع.. أتى صوتها من بعيد يخبره بأن الطارق في هذا الصباح الباكر مندوب شركة التقسيط يشعره بأن القسط الثاني أصبح واجب السداد وعليه القيام بتسديده فوراً، وكذلك كان برفقته صاحب المكتب العقاري يطالب بإيجار الشقة.. وسمع فيصل هذا الكلام فعاد إلى خلع ملابسه من جديد وحشر نفسه في السرير وعندما سألته نوال عن سبب هذا التصرف قال:
- سأبحث عن عمي فزاع لعلي أعثر عليه.. هذه المرة.. لن أدع المرأة تحمل الصندوق سأحمله أنا..