القاهرة - مكتب الجزيرة - أحمد عزمي
يعتبر القاص والروائي محمد البساطي من أبرز أبناء جيل الستينات في مصر، ذلك الجيل الذي كان عليه أن يكتب شيئاً آخر بعيداً عن سطوة نجيب محفوظ الإبداعية.
أغلب أعمال البساطي تنتمي إلى عالم القرية، حيث عاش طفولته وصباه في الريف المصري قبل أن ينتقل للإقامة والاستقرار في القاهرة، وكان حصاد هذه الرحلة الإنسانية تسعة مجموعات قصصية، منها (الكبار والصغار) و(منحنى النهر).
كما أصدر ثلاث عشرة رواية منها (صخب البحيرة) و(أصوات الليل) و(الخالدية) و(جوع) وأخيراً أصدر منذ أيام روايته (أسوار) التي تتناول عالم السجن، في تجربة تبدو غريبة على عالمه الإبداعي هنا حوار مع الروائي المصري محمد البساطي.
لم تتعرض لتجربة السجن أو الاعتقال ومع ذلك كان السجن موضوع روايتك الصادرة حديثاً.. من أين استمد البساطي خبرته الإبداعية حول هذا العالم المغلق على من خبره وعرفه من الداخل؟
- لقد رأيت كل سجون مصر، وشاهدت الوقائع التي سردتها في الرواية، من خلال عملي كمفتش مالي بمصلحة السجون، عندما كنت موظفاً بالجهاز المركزي للمحاسبات، وأجمل سجون مصر هو سجن (أبو زعبل) الموصوف في روايتي، وأسوأ هذه السجون (ليمان طره) ويعد سجن (المرج) بمثابة نزهة جميلة، لكن القاسم المشترك بينهما هو أن عنابر المسجونين قذرة بلا استثناء، ولا تصلح لإقامة البشر.
هل بيئتنا العربية منتجة للطغيان؟
- الطغيان ليس متوارثاً وإنما صفة مكتسبة، والدافع إلى ذلك عدم احترام هيبة القوانين.
تعتمد على فترات الطفولة والصبا في أعمالك الروائية والقصصية بشكل كبير، مقارنة بالمراحل التالية من العمر.. هل يعود ذلك إلى حنين يتمكن منك؟
- أنا أفسر هذا الأمر، بأنه (تخزين) خصوصا إذا كانت فترة الطفولة كثيرة الأحداث، وهذا لا ينفى أن لدىّ حنين ما لفترة الطفولة، فإذا راجعت تلك المرحلة من عمرك، تجدها ناصعة وحية، أكثر مما مررت به أمس، وأنه لا تستدعيها، لكنها هي التي تقتحمك فجأة، ما يجعلك منجذباً دائما لتلك المرحلة من العمر، وتريد كتابتها. هذا بالإضافة إلى أنني أحب الحركة في أماكن أعرفها، وأستطيع تخيل كل شيء عنها: الشوارع والبيوت والهواء، وليس بالضرورة أن أصف كل هذا، لكن ذلك الأمر يمنحني شعوراً بالطمأنينة وأنا أكتب.
ماذا عن قراءاتك؟
- قبل أن أكون كاتباً، أذكر أنني قرأت لفؤاد التكرالي، الروائي العراقي الراحل، كما أحببت القاص السوري زكريا تامر، ثم قرأت لعبد الرحمن منيف، وبعد ذلك لإلياس خوري، وربما يكون هناك كتاب على نفس الدرجة من الأهمية، لكن أعمالهم لا تصل إلينا.
هناك أيضا هدى بركات وإبراهيم الكوني وأحمد الفقيه والطاهر وطار وخيري الذهبي ونبيل سليمان، لدينا كوكبة من الكتاب الممتازين، لكن أعمالهم لا تصل إلينا بالقدر الكافي، فنعتمد على معرض الكتاب، لكن الكتب سعرها غال، والمفروض أننا كأمة عربية نقوم بإلغاء الجمارك على صناعة الكتاب، حتى تنتشر الثقافة، وبالتأكيد هناك أجيال جديدة ظهرت في العالم العربي، ولا نعرف عنها شيئاً، بسبب الأوضاع التي تقيد حركة الكتاب.
هل تعيد قراءة عمل واحد مرتين؟
- هناك أعمال سبق أن قرأتها، ثم أعود إليها، ولا أعيد قراءة كتاب إلا إذا كنت مطمئناً إلى قيمته الفنية، ولا تختلف متعتي في القراءة الثانية عنها في الأولى.
هل هناك كاتب معين تحرص على قراءة كتبه فور صدورها؟
- أحرص على قراءة أعمال أصدقائي، لأنني سوف أسأل عنها، باعتبارنا أصدقاء ننتمي إلى جيل الستينات نحن لا نجامل بعضنا البعض، ولكن هناك انتقادات شديدة وموضوعية لكل عمل، لهذا أرتاح لتقييم عملي من هؤلاء الأصدقاء، ومع ذلك لا يوجد كاتب يمكن أن تنجذب إليه لدرجة أن تنتظر صدور كتاب له.
تبدو اللغة في أعمالك ذات مستويات عدة، كيف تتعامل مع إشكالية اللغة؟
- أكتب وبجواري (القاموس) أو (المعجم)، وحين أختار مفردة عامية أو دارجة يكون شرطي أصلها العربي، وتكون أشد وقعاً وجمالاً من نظير لها أكثر فصاحة، وهناك كلمات عامية لا يستعملها الكتاب رغم فصاحتها، فهم يبتعدون عنها لعدم تداولها، وهناك كلمات إيقاعها بائس، وهذه ما أتجنبها، وإذا لم تكتب الجملة بإيقاع الكتابة فإن خللاً ما ستشعر به، وهذا يعود إلى إحساس الكاتب باللغة.
هل هناك شخصيات روائية أتيت عليها في أعمالك الإبداعية ثم ألحت عليك لتظهر في أعمال أخرى؟
- شخصية (زغلول) في رواية (الجوع) أريد أن أعود إليها، فلدى شعور بأنها تحتج إلى إضافة جديدة، وأشعر في ذات الوقت أن أية إضافة إليها ستخل بإيقاع الرواية، أيضا شخصية (الجد) في رواية (أوراق العائلة) تلح علىّ باستمرار أريد أن آخذه، وأفتح أمامه الطريق، ليحفر نهراً بدأه في (العائلة) أشعر أنه سيمنح الرواية الكثير، أيضا البطلة (ليال أخرى) أريد أن أصحبها إلى مكان آخر وعالم آخر، بالروح ذاتها التي كانت تتمتع بها.
ألا يربكك ظهور مثل هذه الشخصيات القديمة في أعمال جديدة؟
- يصيبني ذلك بنوع من الخجل، رغم أن كتاباً كباراً فعلوا ذلك من قبل، ماركيز فعل ذلك كثيراً، أيضا جونتر جراس حول (قبو بصل) وهى قصة قصيرة إلى رواية (طبل الصفيح)، هذه حرية ممنوحة للكاتب، لكنني أشعر أحياناً بأن هناك شخصية أعطت كل شيء عند ظهورها للمرة الأولى في عمل ما، وإذا عدت إليها مرة أخرى لن تكون على الدرجة ذاتها من الحيوية التي ظهرت بها لأول مرة.
ومتى يحدث ذلك طبقاً لتجربتك الإبداعية؟
- هذه الشخصية ليست جديدة، ثم أتذكر أنني كتبتها في عمل آخر، فأتوقف على الفور، لكن في بعض الأحيان، أعرف ذلك، لكنني أواصل الكتابة. حدث هذا في قصة (الأرامل) التي كانت أساساً رواية (أصوات الليل) بعد أن أضفت إليها ما يتواءم مع الرواية نفسها، كذلك حدث الأمر نفسه مع قصة (المجرى) التي اقتحمت رواية (أوراق العائلة)، وحاولت أن أبعدها عن العمل، دون جدوى، فقد فرضت وجودها علىّ، فتركتها تفعل ما تريد.
على كثرة ما تعامل النقاد مع عالمك الإبداعي هل هناك من استطاع الدخول إليه أم ظل الكثيرون خارج هذا العالم؟
- النماذج متعددة، ومنها من دخل إلى هذا العالم، ومنها من لم يستطع، ومع تعدد الدراسات التي كتبت عن رواية (الخالدية) أذكر أن الناقد أمين العيوطي قام بتحليل العمل في دراسة جيدة، شهد لها د. صبري حافظ، بأنها من أفضل ما كتب عن الرواية، ولا تنس أن حافظ ناقد نافذ كما أذكر أن الناقد الراحل (علي الراعي) كان معلماً قادراً على احتواء العمل وتحليله على نار هادئة، كذلك صبري حافظ الذي يكاد يكون متابعاً لكل أعمالي، وهناك دراسات فاروق عبد القادر المتميزة وإبراهيم فتحي الذي كتب أفضل ما كتب عن رواية (صخب البحيرة) وكذلك فاطمة الحسن التي كتبت دراستين عن أعمالي، رغم أنني لم ألتقيها مرة واحدة.
هل صحيح أن الإبداع الروائي والقصصي يسبق النقد بمسافات كبيرة؟
- هذا صحيح، هناك إنتاج غزير من الروايات، يصدر معظمه لكتاب شباب، والمفروض أن يظهر نقاد ينتمون إلى هذا الجيل، كما حدث معنا، رغم أن عددنا كجيل ستينات كان قليلاً مقارنة بجيل الشباب، الذي لا يحظى بمتابعة نقدية تتناسب وإبداعاته، كما أن أماكن النشر التي تهتم بتحليل العمل الأدبي ودراسته قليلة، ولا يوجد الناقد الذي يستطيع أن يمنح عملاً ما ليلة أو ليلتين من عمره، لأن اللهاث وراء لقمة العيش جعل هؤلاء يبحثون عما يدر دخلاً في ظل الأحوال الاقتصادية المتردية التي نعيشها.
هل تهتم بنظريات النقد الحديثة؟
- لا... لست مهتماً بمثل هذه الكتب، لأنني عندما أقرأها أظل ستة أشهر على الأقل منقطعاً عن الكتابة، لأن الخوض في معرفة قوانين الكتابة تقيد الكاتب، وتحد من انطلاقه، لذلك حين يكتب الناقد رواية لا تكون جيدة، لأنه أحاطها بمعرفته النقدية.
من الكاتب الذي لم يحصل على حقه في نظرك؟
- زكريا تامر خصوصاً أن نجمه أفل منذ فترة وكان علامة من علامات كتابة القصة القصيرة، ظهر يوم أن كان نجم يوسف إدريس في السماء، ثم اختفى، رغم أنه ترك تراثاً هائلاً في فن القصة القصيرة.