كان وسيبقى هَمّ المثقف القلق هو إبداع نمط جديد في التعامل مع التراث ومنجزه على شتى الأصعدة قراءةً وتلقياً وتأويلاً وتصنيفاً ذوقياً.. ويأتي الشاعر المتنبي في هذا السياق ليمثل ورطة أمام إنجاز أي نوع من هذا التعامل على مستوى الذوق تحديداً لأن الشعر يؤدي دور الشعرنة التي تتدخل في إعادة صياغة السلوك النفسي بل وإحداث انقلاب جذري في طبيعته.. أي خُلق جديد وانطباع طارئ يأخذ مداه في ترتيب مكونات الوعي تُمهد لاستقبال واقع جديد من خلال آلية جديدة ربما يأتي الوزن والقافية في الشعر كمعبّر مؤهل ووسيط جدير ومتحكم مكين في التعامل مع التراث الجمالي الشعري.
المتنبي ينهض هنا بوصفه سيد الوزن والقافية الذي ساد هذا التعامل فهو سيد على السيد فتجاوز نجاح (العقدة) إلى نجاحات (الغريزة) فتجذر فنه في طموحات الشعراء من بعده ولا تكاد تخلو تجربة لا يراود مبدعها هاجس المتنبي في خلوته إلى حدّ توهم ارتداء العمامة والسيف والليل والبيداء... يأتي الدكتور عبدالرزاق الحمد في ديوانيه ليكرس هذه النتيجة التي تبلورت في الضمير الشعري العربي مئات السنين من تفحيل الأنا الشاعرة منذ (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي...) إلى (أنا الذي نظر الأحول أدبي).
المتنبي غريزة
شعرنة الذات بلغت لاحقاً مبلغ الفحل الشعري وهنا تحديداً تتجلى غريزة المتنبي توهماً بأن هذه الغريزة كفيلة بتخصيب الخيال نيابة عن الشاعر وتأمين المعاني الابكار المتكدسة في البيت الواحد. فأورثت الشاعر داء الكسل لأن المتنبي بعد أن كان مُلَهماً صار مُلِهماً أو ساعي بريد المعاني ومن هنا حدثت نكسة الشعر والشاعر المستغيث طوعاً وكرهاً بشخصية المتنبي وليس بشاعريته فقط ولذا ازدهر فن المديح عند المتنبي دون غيره من الأغراض لأن التلقي كان ذا صلة بعقدة تداعت إلى غريزة ولا أدل على صعود العُقَد من بروز الغريزة النزارية والسيابية والدرويشية.
يصدر للدكتور عبدالرزاق ديوانه (وطني الفخر كله).. والعنوان غير متكلف بل غير مبتكر ولكنّه مناسب للاحتفالات الوطنية غير المعنية بالإبداع المتقصرة على التمجيد للوطن... فعبارة (الفخر) ليست شعرية على الإطلاق عند الحَمَد وغيره إلا في سياقات تحديثية لا توفرها المناخات المناسباتية التقليدية وفي استعراض نصوص المدح تتمظهر وعلى نحو جليّ استدعاءات المدّاح الأول (المتنبي) فنياً وشخصياً لدمجه في معادلة سيف الدولة وتسهيل العملية الشعرية إذ إن استدعاء سيف الدولة مُتَطَلّب لاستدعاء المتنبي والعكس غير صحيح وعند استعراض الديوان تتكشف هذه الاستدعاءات في المطالع الخالدة لنصوص المتنبي (الغريزة) ويستفتح د. عبدالرزاق في نصوصه بالمطالع الآتية:
شفاؤك للاحبّة كُلّ نعمه
وللأعداد غيظٌ بل ونقمه
ومطلع آخر:
شموس العز تُسلم بعدها للمجد شهبه
وآخر:
يئس العِدا من أن يُشقَّ مداكا
والصحبُ ما حلموا بطوق نداكا
وعلى الرغم من أن د. عبدالرزاق قدّم صوراً جيدة في بعض نصوصه إلاّ أن هذا لا يعني براءته من المتنبي غريزةً وعقدةً واستحضار شخصيته كداعم للموقف المدائحي لأنّ المتنبي كان يخرج من كل نص ممدوحاً أكثر منه مادحاً.
(بينهما أنا)... العاشق يخترع معشوقته
سلطة القافية والوزن ذات نفود حتى على الحقول الدلالية للنص بل والشعور وتمارس دوراً خادعاً في اختراع الحالة العاطفية وتصديرها إلى النص لتكمّل لذّة الوزن والقافية.
والمتقاطع مع ما أسلفته قَبْلاً في اختراع (سيف الدولة) نلحظه في اختراع عَزّة بُثَينة ولُبنة في المغامرة الشعرية الغزلية حتى بدا الغزل ضرورة شعرية وليس إنسانية فقط حتى من الذين عُرف عنهم غض البصر ونهي النفس عن الهوى. د. عبدالرزاق وشعراء الخط الكلاسيكي مرتهنون للقافية والوزن كثقافة وليس كفن فقط فالشاعر هنا لا يتغزل بفتاة رآها في سوق راقٍ من أسواق شمال الرياض بل يتغزل بفتاة من فتيات امرئ القيس أو عمر بن أبي ربيعة إذ إن القافية استحالت من فن إلى حالة من التعامل الجغرافي والتاريخي ورغم ما ذكرت فالانعتاف من القافية كإملاء ثقافي مع بقائها في النص أمرّ سهل إذا حدث تحرر من النسق الغزلي التاريخي وأعيد صياغة رمزية الأنثى دون اجترار تجارب كُثَيّر وقيس الزاخرة بتعبيرات الفراق والوصل والهجر التي تم استيرادها معلبة من العصر الأموي وتوظيفها في الحالة الحديثة فبدت غير موفقة على مستوى التلقي ولا سيما الدكتور عبدالرزاق وهو الرجل الوسيم الذي لا تَصْدُق عبارات الهجر والحرمان في علاقته بالمرأة.
الخلل يبدو أكثر في غفلة الشعراء المنقادين لهذا النمط من التعاطي مع الحالة العاطفية المثقلين بعبء البحث عن (بثينه) شارع التخصصي أو (عَزّة) شارع التحلية فكل شيء لابد أن يكون طبيعياً حتى يكون النص عصرياً.
سأورد بعض نتائج غفلة الانقياد لسلطة القافية الأموية والعباسية.
يقول د. عبدالرزاق:
ينبت المجد في ذُرى ماجديه
ليس في ظل جاهلٍ وجهوله
والسؤال ما الجدوى من التجنيس المترادف (جاهلٍ وجهوله) غير الانقياد اللذيذ لهذه القافية الأموية؟
يقول: (بلادي أنت روحي في حياتي) وهذا ممكن أن يكون للأم والمعشوقة والابن والبنت والبلاد والإيمان...
يقول :
ثنتْ أعطافَها في كل غنجٍ
وماس القدّ يرقص في اختيال
وهذا من الإملاء العباسي الصارم.
يقول: (ونظرة عارضيك لها ورود)... العارض لم يعد مناسباً لوصف الجمال بل هو تعبير قاسٍ لوصف الجمال الرقيق.
يقول:
وهذا قدّك المياس يحكى
غصون البان تخطر في اعتدال
فـ(قدّ) و(المياس) (غصون البان) ألفاظ غزلية جاهزة مثل تشبيه الجميلة بالقمر.
يقول: (صواعقها تُميتُ بلا قتال) وهنا تبرز غريزة المتنبي في قوله (المتنبي): (وتقتلنا المنون بلا قتال).
يقول :
وحديثهما من رقّةٍ دُرَرٌ
من نظمه قد راح ينتثر
وحرف (قد) جاء بلا مبرر بل هو حرف سردي أكثر منه شعري.
وأمثلة أخرى يضيق عنها المقام.
عيد الجراح
نص (عيد الجراح) نص استثنائي أبرز المقدرة الحقيقية للدكتور عبدالرزاق حيث نجح على مستوى الوزن والقافية والنبرة والمعنى. وثَنائي على هذا النص جاء للتأكيد على أن الطاقة الشعري كامنة في قريحة الشاعر يفجرها باقتدار إذ تحرر تحرراً حقيقياً من الآباء الشعريين الذين يرتهن لهم أي شاعر فعبدالرزاق الحمد في هذا النص لا يشبه أحداً لأنه لم يقلد أحداً.