وضع النحويون قواعد اللغة وفاق الأعم من اللغة والأكثر استعمالاً؛ ولكنهم عادوا إلى النصوص من شعر وغيره فحاولوا ردّها إلى تلك القواعد انتصارًا لها، وأغفلوا مسألة مهمة هي أن اللغة أعم من قواعدها، وأنه قد يكون من النصوص ما هو خارج عن النظام المنتزع من جمهرة الاستعمال.
ومن أوضح أمثلة هذا ما واجه النحويون به هذه الآية. عقد الأستاذ الدكتور أحمد مكي الأنصاري في كتابه القيم (الدفاع عن القرآن ضد النحويين والمستشرقين) فصلا طويلاً (ص56- 103) بحث فيه إعراب الآية الكريمة. فبين آراء النحويين في عمل إنّ (ص58)، التي منها أنها تنصب الاسم وترفع الخبر وهذا هو الرأي المشهور.
ومنها أنها تنصب الجزءين معًا كقول الشاعر*
إنَّ حراسَنا أسدا*(همع الهوامع للسيوطي، ص134).
ومنها أنها ترفع الجزءين معًا كما في هذه الآية، وفي حديث نبويّ شريف(إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون)، وفي بعض الأشعار (كتاب سيبويه 1: 290).
كما أن سيبويه ذكر هذه اللغة في الكتاب حيث قال: (وروى الخليل أن ناسًا يقولون (إنّ بك زيدٌ مأخوذٌ)( الكتاب 1: 281).
وعقب الأنصاري في (ص66) فذكر أن هذا المثال الذي رواه الخليل عن العرب فيه دلالة واضحة على أن بعض العرب يرفع الجزءين بعد (إنّ) فلا تعمل النصب في الاسم كما هو معروف، ولكن هذه اللغة قليلة، ولذلك قال سيبويه (والنصب أكثر في كلام العرب) (الكتاب 1: 282).
وقد تعددت طرائق النحويين في تأويل قراءة هذه الآية، فذهب المبرد إلى جعل (إنَّ) بمعنى نعم وما بعدها مبتدأ وخبر (المقتضب،2: 364)، وقيل اسم إنّ ضمير الشأن (مغني اللبيب، 1: 243)، و(هذان لساحران) خبرها والتقدير (إنه هذان لساحران).
وقيل جاءت (هذان) على لغة بلحارث بن كعب يلتزمون الألف في كل المواقع الإعرابية (مغني اللبيب،1: 245).
وقيل (هذان) مبني لدلالته على الإشارة (مغني اللبيب، 1: 246).
وقيل إن الألف في (هذان) ليست ألف التثنية بل ألف (هذا) وألف التثنية حذفت وأما ألف (هذا) فلم تتغير (مغني اللبيب،1: 248).
وروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت إنّ هذا من خطأ الكاتب، وهي رواية شكك في صحتها العلماء.
وأما تأويلات النحويين فكلها لا تسلم من الاعتراض، وهي واضحة التكلف وأن هدفها إبقاء إنّ عاملة في مثل هذا النص.
وكان الأولى بهم أن يتجنبوا ذلك، ويصفوا الظاهرة كما هي فيقولوا إنّ القرآن في هذا الموضع ترك استعمال النصب بالحرف (إنّ) وهذا استعمال خاص يحفظ ولا يقاس عليه. وهذا شأن المسموعات، فما خرج منها عن القواعد روي كما ورد وقبل على أنه من جملة اللغة الفصيحة ولكنه لم يلتزم القاعدة العامة.
وفي القرآن أمثلة أخرى خالف استعماله فيها القاعدة العامة كما في منع (أشياء) من الصرف في قوله تعالى {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:101.
إذ حق أشياء أن تصرف مثل أنباء.
أو صرف الممنوع منه في قوله تعالى {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلاً وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا}[الإنسان:4
إذ حق (سلاسلا) أن تمنع من الصرف لأنها جمع على صيغة منتهى الجموع.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتب«7987» ثم أرسلها إلى الكود 82244