طالما كان التوحّشُ:
سُلّمَ الحضارة/
ربما كانت الحضارةُ:
مفتاحَ غابة!
من أجل هذا لا بُدّ من المكاشفة. ولا مهرب من التأكيد: أنه ما يزال يلفّ الرؤية إلى العاميّة والفصحى الضباب في بعض الأذهان، عمدًا أو سهوًا، وذلك في أبعاد ثلاثة:
1- الفرق بين شفاهيّة اللغة، وكتابيّتها.
2- حتميّة التاريخ، ومسؤوليّة الإرادة الإنسانيّة العاقلة في عقلنتها.
3- مستويات العربية الفصحى، بين اللغة الأدبيّة المبينة، وما كان منها في أصله لهجةً منغلقة على أصحابها. وتظهر تلك البلبلة في الفهم والمفاهيم من عدم التفريق بين وجود العاميّة في الماضي - بوصفها ضرورة، وشفاهيّة - ووجودها اليوم من حيث هي ترف، ومكتوبة.
كما تظهر من عدم التفريق بين التسليم بسُنن التطوّر في الحياة، ومنه تطوّر اللغة - وهو ما حدث في لغات العالم كافّة، فتبدّلت أحوالها وبدّلت أهلها تبديلاً - وبين ما نتمسّك به من أنّ: اللغة العربيّة هي رابطنا بالماضي والحاضر والمستقبل، وجسرنا إلى آخرنا العربي والمسلم وغير العربي والمسلم، وليس من المصلحة، ولا من العقل، التنازل عن كل تلك المكتسبات والآمال، في سبيل ترك دفّة التحوّلات اللغويّة تعصف بهويّتنا وتاريخنا وعامل توحّدنا اللسانيّ بين الأُمم.
كما يظهر ضباب الرؤية كذلك في عدم التفريق بين مستويات العربية الفصحى نفسها، كأيّ لغة في العالم، وفق سلّم يتدرّج من السهولة إلى الوحشيّة، أو قل: الانبهام على سواد الناس الأعظم. يتبدّى هذا حين نشهد التململ الدارج - والمفتعل أحيانًا - إذ تُثار قضايا العربيّة الفصحى، فيسود بين كثيرين رهابٌ قسريّ من صعوبة لغتنا. وكأن اللغة العربيّة في أذهان أولئك - جهلاً أو مكرًا - لا تعني إلاّ لغة الشنفرى، وتأبّط شرًّا، أو أبي علقمة الأعرابي النحوي، الذي رُوي أنه دخل على طبيب، فقال له: (أمتع الله بك، إني أكلتُ من لحوم هذه الجوازل، فطسأتُ طسأةً، فأصابني وجعٌ بين الوابلة إلى دأية العنق، فلم يزل ينمي حتى خالط الخلب، وألمتْ له الشراسيف، فهل عندك دواء؟) فأجابه الطبيب، ساخرًا: (خذ حرقفاً، وسلقفاً، وشرقفاً مزهزقة، ورَقْرِقْهُ، واغسله بماء روثٍ، واشربه بماء الماء!) ولذا تقفز آليًّا إلى قرائح هؤلاء المستوحشين من الفصحى حُجّة يقتبسونها من أحد أجداد التيّار الذي لا يرى بأسًا ولا ضيرًا من كتابة العاميّة ونشرها - وإن لم يبلغ بدعوته إلى أكثر من القول بتسهيل اللغة، والبُعد بها عن التقعّر، والتصحّر، والأعرابيّة - وأعني شاعر القرن الثامن الهجري (صَفِيِّ الدينِ الحِلِّي، 675- 750هـ = 1276- 1349م). وهو صاحب كتاب (العاطل الحالي: رسالة في الزجل والموالي)، الذي كان لبنةً مرجعيّة معروفة في تراث العاميّة، وأحد الأعلام الذين تعتزّ بهم الحركة العاميّة، وتعتدّه في سلفها الصالح! فهو القائل:
إِنَّما الحَيزَبونُ والدَّردَبيسُ
والطّخا والنُّقاخُ والعَطْلَبيسُ
والسَّبَنْتَى والحَقصُ والهِيْقُ والهِجْ
رِسُ والطِّرْقَسانُ والعَسْطُوْسُ
لُغَةٌ تَنفرُ المَسامِعُ مِنها
حينَ تُروَى وتَشمَئِزُّ النُّفوسُ
وَقَبيحٌ أَنْ يُذكَرَ النَّافِرُ الوَحْ
شِيُّ مِنها ويُترَكَ المَأنوسُ
أَينَ قَولي: (هَذا كَثيبٌ قَديمٌ)
وَمَقالي: (عَقَنْقَلٌ قدموسُ)؟!
لَم نَجِد شادِياً يُغَنّي: (قِفا نَبْ
كِ)، عَلى العُوْدِ، إِذْ تُدارُ الكُؤوسُ!
لا، ولا مَن شَدا: (أَقيموا بَني أُمّ
يْ)، إِذا ما أُديرَتِ الخَنْدَريسُ!
أَتُراني إِنْ قُلتُ لِلحِبِّ: (يا عِلْ
قُ)، دَرَى أَنَّهُ العَزيزُ النَّفِيْسُ؟!
أَو إِذا قُلتُ لِلقِيامِ: (جُلوسٌ)،
عَلِمَ الناسُ ما يَكونُ الجُلوسُ؟!
خَلِّ لِلأَصمَعيِّ جَوْبَ الفَيافي
في نَشافٍ تَخِفُّ فيهِ الرُّؤوسُ
وَسُؤالَ الأَعرابِ عَن ضَيعَةِ اللَّفْ
ظِ إِذا أشكلتْ عَليهِ الأُسوسُ
دَرَسَت تِلْكُمُ اللُّغاتُ وأَمسَى
مَذهَبُ الناسِ ما يَقولُ الرَّئيسُ!
إِنَّما هَذِهِ القُلوبُ حَديدٌ
ولَذيذُ الأَلفاظِ مغناطيسُ!
والواقع أنّ مغناطيس (الحلّي) إنما كان يجتذب ما قاله قبله (أبو نواس، - 198ه = 813م): (قُلْ لمَنْ يَبْكِيْ على رَسْمٍ دَرَسْ...). وهو إنما ينتقد اصطناع اللغة الأعرابيّة الحوشيّة، الأشبه بالعاميّة المغرقة في محليّاتها، لا العربيّة الجميلة المبينة. إنّ ما عابه الحلّيّ من مفردات إذن - ك(الحَيزَبون؛ الدَّردَبيس؛ الطّخا؛ النُّقاخ؛ العَطْلَبيس؛ السَّبَنْتَى؛ الحَقص؛ الهِيَق؛ الهِجْرِس؛ الطِّرقَسان؛ العَسطوس؛ عَقَنقَل؛ قدموس) - هو ما يشيع في تراثنا اللهجي، لا في عربيّتنا الفُصحى، وهو وغيره اليومَ من مفردات بعض الشِّعر العاميّ، ولاسيما النبطي، وكثير منه - وكثير ممّا هو أغرب منه - ما يزال مستعملاً مفهومًا، مأنوسًا لدى أهله. ومسألة الأُنس والنفور - على كل حال - مسألة نسبيّة، تختلف بحسب البيئة والثقافة. فهي كالجَمال، لا مقاييس متفق عليها فيها. وفي الحاضرة من غرائب المفردات اللهجيّة ما ينفر منه أهل البادية ويستهجنونه، سواء بسواء. فشتّان إذن بين موقف (الحلّي) المستطرف والساخر من لغة الأعراب، وبين ما يتذرّع به اليوم بعض الناس للتنفير من العربية من خلال تصويرها لغة وحشيّة غريبة، أكل الدهر عليها وشرب. والأغرب أن يزعم لنا هؤلاء أنّ اللهجة أسهل من الفصحى، وما هي بأسهل إلاّ لدى أهلها، وذلك كسهولة الهِجْرِس والطِّرقَسان والعَسطوس لدى أهلها. ذلك أنّ قصيدة محمّلة بهذه المفردات، التي تقضّ مضاجع أمثالنا، وتبعث في روعهم الفزع، هي لدى أبناء لهجتها كالماء الزُّلال .. وربما وجدوا - في المقابل - الصعوبة كلّ الصعوبة، أو النفور والاستهجان، فيما نعدّه نحن عذبًا فراتًا سائغًا للشاربين، كشعر نزار قبّاني، مثلاً، ولن أقول: كقصيدة النثر، فتلك حكاية أخرى!
بل إن صفيّ الدين الحلّي - فوق كونه أحد شعراء العربيّة الكبار في عصره - هو صاحب كتاب (الأغلاطي)، وهو معجم للأغلاط اللغويّة، وله كتاب (صفوة الشعراء وخلاصة البُلغاء)، وهما كتابان ما يزالان مخطوطَين، كما يذكر (خير الدين الزركلي) في (أعلامه)(1). وعليه، فلا يمكن أن يُعدّ الرجل - وإن نظم الزجل، وجَمَع كتابًا في بعض نماذجه - من سَلَف الغافلين، أو المغالطين/ العلطبيسيّين اليوم في شأن العربيّة، بوصفها لسان أمّةٍ وتاريخٍ وحضارة، وسيّدة الأبجديّات، التي لا ينبغي أن تُغرس العراقيل اللسانيّة في سبيلها، بأيّ شكل من الأشكال، وإلاّ كنّا بذاك نخون أماناتنا، ونغدر بأنفسنا، ونُخرب بيوتنا، وبيوت الذي خلّفونا، بأيدينا! (للحديث بقيّة).
1)(1984)، (بيروت: دار العلم للملايين)، 4: 18.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net