الماء أول مرآة تمرأى فيها الإنسان، ماء الجنين الذي كان يسبح فيه دون أن يرى نفسه فيه. كان يجب أن يخرج من الماء ليرى نفسه على مسافة فيه!!
والمرآة تعكسك على بعد منها، وتعكس أيضاً المسافة نفسها في المرآة. بما أن المرآة هي ذواتنا المعكوسة أو وهمنا أنها كذلك فنحن إذا حينها نتحد ونتماهى بمائنا من جديد. أليست المرآة الأولى هي ماء الحياة الأول؟ أليس الماء هو الذات في حالها البدائية الأولى؟! وإذا كان للمرآة وظيفة التضاعف والتناسخ مع وظيفة التوحد والتماهي فتلك حالة تربط عملية الوقوف أمام المرآة بعملية الخلق والمزج بين الرؤية والرؤيا والألق والولادة؛ ففي المسافة أمام المرآة مع الماء ثمة مسافة للفتنة والافتتان، ولعله من هنا جاء النهي النبوي (لا يتمرأى أحدكم في الماء).
ماء القربة
ثمة علاقة لا أدرك أبعادها تمامًا بين الطفولة والماء، الطفل يولد من ماء، ويسبح في الماء محمولاً في قربة أمه، وحينما يترجل إلى العالم ينزل محفوفًا أيضاً بالماء!! معظمنا، ونحن نعيش في مناطق قاسية جافة صحراوية، يحب المطر. وهذا إلى حد كبير مفهوم، وربما مبرر، لكن أن أربط بين الطفولة والماء فذاك ما بدا لصديقتي غير مفهوم، فما علاقة الفرح بالماء بالطفولة، شرحت لها أنه ربما يرتبط ذلك عندي بالمكان فربما كان لنشأتي في الطائف، تلك التي لا يهجرها المطر، أثر في هذا الربط.
لكن ما كنت أدركه عقليًا وعاطفيًا أيضاً أن هذا المبرر غير مقنع. إن في المسألة ما هو أعمق. ولم أكن لأتبين أبعاد العلاقة بين الماء والطفولة. ومرّ على خاطري وفي إحساسي ما جعلني أرتعش خوفًا، فقد مر بخاطري لوهلة أنني أتذكر الماء الأول حين كنت ألعب في قربة أمي، وليس في قربها!! تخيل أنك يمكن أن تتذكر الماء الذي كنت تسبح فيه قبل أن تترجل من رحم أمك؟ من هاجس كهذا ارتعبت، فكرة كهذه كانت كافية لاستنزاف شغفي بمجاهيل لا أعرفها وإنما أحسها إحساسًا غامضًا لذيذًا، كانت كافية لتحرض مزيدًا من الشغف والقلق المعقد حول هذه العلاقة الغائمة بين الماء والمرآة والطفولة والمياه القديمة والأنا الجنينية الأولى العتيقة. كنت أشعر - وأنا أتحسس كالعميان ذلك الشعور المبهم الغريب المريح - أنني أجول في ملكوت الشعر!! لغة نقية ليست كأية لغة ونغم لا يسمع، وحفيف بل هفهفة روح قصية ندية أرق من نبض ضعيف.. يا للهول ما الذي أحسه وأسمعه وأراه؟؟ هل أنا على مقربة من شيء مغادر للتو وقد لامس قبل قليل النفخة الأولى التي لامست كينونة الجنين أو ربما حتى ما قبله: كينونة الماء؟ أكنتُ في اللحظة البرزخية أم كنت في التكوين؟
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«7845» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
rafef_fa@maktoob.com