عودة
المنافي التي غربتني
أتدرك غربتها
وإذا نلتقي في الطريق، أتعرف
ما الفرق بين ظلال الغريب
وهذي الطيور بداخلها
أتكون المنافي منفية
وأنا هاهنا
بدء عودتها؟!
إبراهيم نصر الله
ديوان (نعمان يسترد لونه)
كيف خرجت رواية (براري الحُمّى) لصاحبها ابراهيم نصر الله عن التقليدية، وما هي الأدوات التي خرجت بها عن حدود التقليد؟ وهذا المكان المحموم، كيف تتوسل الرواية روحه المريضة؟
(براري الحُمّى) بشكلها الروائي غير التقليدي، هي في صميمها رواية حداثية مضادة (anti-novel ) تتصادم مع مسلمات الأدب الواقعي باستخدامها تقنيات حديثة تسمح بتداخل الأزمنة والأمكنة وبإزالة الحدود ما بين الأجناس الأدبية شعرية ومسرحية، كما أنها تستخدم أساليب سردية تعتمد على لغة البوح الداخلي المباشر التي تصدرمن متاهات الذهن المحموم حيث يتراجع الوعي ليتقدم اللاوعي معبراً بلغة هذيانية في نص مفتوح النهايات، لذلك فهي تتمثل كتابة مغايرة وتستلزم آليات نقدية مغايرة تتلاءم مع معطياتها الجديد..
إن استخدام هذه التقنيات الجديدة المختلفة لا يخلو من قصدية مضمرة، فبالخروج علي الأعراف السردية تكون هذه الرواية المضادة قد انفصمت عن تقاليد المحكي الروائي وأعلنت ضمنا موت الرواية كنوع أدبي ملتزم بقوانين السرد المتوارثة. هذا الانفصام والموت يوازي ويتناسب مع ذلك الانفصام الذي يمزق وعي السارد ويشطره، ومع موته المجازي كذات بشرية مغيبة. من جهة اخري يتضح التصور الفلسفي لهذا الشكل الروائي الجديد حين ندرك أن اختفاء الذات المنفصمة هو تعبير مواز لفكرة تذويب الفرد الواعي وتهميشه في منظومات إقتصادية قامعة تضاعف من شعوره بفقدان القيمة وعدم المبالاة. تتصاعد وتيرة هذا التعبير إزاء عجز الفرد عن ممارسة أي دور مؤثر كمواطن مخلص، فيدخل في دائرة الاختفاء والبحث عن معنى وجوده، وينفصم عن الآخرين وقد فشل في الانسجام والتواصل معهم.
هذا الشكل الروائي إذا إنما يندمج جدلياً مع حالة الذات المنشطرة ليخدم أغراض الرواية التي تريد أن تصرخ احتجاجا غاضباً على معادلات الواقع المر الذي يصادر الحريات الشخصية ويكبتها. وهذا البناء السردي قادر على احتواء جنوح الخيال إلى الحدود القصوى حتى ينجم عن ذلك الانفلات الخيالي سرداً غرائبياً يقدم تصويراً خرافياً لعالم تعويضي يعمل كبديل لواقع مرفوض. ويرتكز هذا العالم على الأسطورية والعجائبية والسريالية التي تتجاوز تمثيل الواقع، وهنا تظهر أهمية هذا المكان (القنفدي) بالذات، فالخرافات الشعبية في هذه المنطقة وثقافتها البدائية تختلط بنسيج النص لتخلق عالماً عجيباً أكثر عبثية وفوضوية من الواقع المتنظم والمتواتر على درجة عالية من التوقعية.
وكما أن ابراهيم نصر الله قد اختار الشكل التقني الحديث لغرض فني فلسفي فإن اختياره مدينة القنفدة كخلفية لأحداث الرواية كان له أسباب تقنية أيضا. وبقدر ما تحيل هذه الرواية على مكان ذي مرجعية واقعية كانت للكاتب فيه تجربة معاشة إلا أن الزمن الكابوسي المطاط وشعرية وصف المعالم يشد المكان إلى حدود الوهم، حيث تفقد القنفدة بعدها الجغرافي لتصبح متاهة نائية يستغل الكاتب أجواءها الجرداء للإيحاء بالعودة إلى الوراء قروناً، إلى بدايات الخلق وانبثاقات الحياة، وهو فضاء منعزل يوحي بالانقطاع والانغلاق ويعزز الشعور بالاغتراب ويتخلخل الزمن. فالمكان هو « غابة المرايا « العاكسة لفضاءات النفس المتشظية ومجالاتها الذهنية. وقد تم استغلال بيئة الصحراء الغامضة التي تمحو التاريخ والهوية كمواز للمناطق المجهولة من الوعي المنفتح على عزلته الفردية القاتلة.
يحاور ابراهيم نصر الله في (براري الحمى) حالة لشخصية مركبة تعاني من مزالق الوحدة الموحشة والاستلاب الروحي، وهي شخصية تستدعي وتتواشج مع حالة العربي المنكسر، والفلسطيني المقموع بالتحديد الذي يشعر بعمق مأساته الطاحنة في مرحلة تاريخية مرة أصبح واقعه فيها كابوسي يتخطى حدود المعقول. تظهر الحاجة إلى توسل تقنية الرواية المضادة في قول الكاتب: (أنني أكتب ضد القارئ وضد نفسي أيضا. نحن بحاجة إلى كتابة تزلزل هذا الموات الذي نعيشه، وهذا الصدأ الذي يتراكم يوما بعد يوم على أرواحنا وأعضائنا أيضاً، ونحن نواصل هذه الحالة المرعبة المتمثلة في تكلس الإحساس بكل ما يدور حولنا، والقبول بهذا العجز كما لو أنه واحد من الصفات الخاصة بنا كعرب).
لذلك فهو يلجأ إلى شكل تعبيري غريب وغير مطروق لعل الدهشة الناتجة تزيح غطاء الألفة عن فجائعية الشقاء الفلسطيني ولوعة الاغتراب التي تكثفت في لاوعي الإنسان المغترب حتى أوصلته إلى مرحلة فاضت عندها تمزقاته النفسية فانشطرت ذاته وتصحرت روحه.
نكبة فلسطين تدفع بالمدرس الأستاذ محمد حماد خارج بلاده الموصدة دونه، لتبدأ معاناته مع اغتراب الروح ووحشة المكان، وهو وإن يحتمل بؤسه وحرمانه ويتكيّف بأن يقبل اللقمة المغمّسة بالهوان في مواطن النزوح، إلا أنه لا يتخلى عن احساسه بحقه في العودة إلى أرضه المغتصبة. هذه الشخصية المحورية مشطورة بين ذاتين وبين أرضين، هذه المعاناة المؤلمة الناتجة عن الانفصال الفعلي للأستاذ محمد عن وطنه تولد لديه إحساسا بفقدان المواطنة في المكان الآخر الذي يتحول إلى منفى، بل إلى فضاء للموت. وكلما حاصرته قسوة أراضي اللجوء الجرداء تبين له استحالة الانعتاق، فيقع في شراك الموت النفسي، وهذا الانفصال هو دليل اختفاء هويتة المطموسة وتجسيد حالة الموت في الحياة.
من جدلية الموت والحياة نستطيع أن نقتنص المغزى الأكبر للرواية في إطارها الكوني، فمأزق الأستاذ محمد هو مأزق بشري فلسفي، واضطرابات وعيه تصيب إنسان هذا العصر وتهدد سكونه الأنطولوجي. في هذا العصر تستبعد الذات الإنسانية وتذوب في ثنايا هذا الوجود كما يذوب الأستاذ محمد في غياهب النص. من هذا المنطلق نستطيع أن ندرك مدى الفراغ الغامض داخل النفس البشرية الناتج عن اغتراب كامل واستغراق تام في بحثها المستمر عن مصيرها وعن معنى لوجودها ومغزى لحياتها في هذا الفضاء النائي العجيب. وهكذا فإن تحديد ملامح البنية التي تنتظم فيها الدلالات الرمزية لرواية (براري الحُمّى) تعطي النص هيئة متكاملة تجمع أجزائها المبعثرة في كلِّ شامل.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712»ثم أرسلها إلى الكود 82244