بمعزل عن الأنامل، تجيء البصمات هوية للأماكن، والأشياء، وبداهةً، كيانات الأفراد. للوقائع، للأمكنة، للتفاصيل، بصمات أشد وطئا، وأقوم قيلا. وحدهم أولوا النهى والبصائر والخيالات الخصبة من يعون ذلك. هناك، في علم الجنايات، يجري الالتجاء إلى حكيم البصمات الشرعي لفك الطلاسم، بينما ينتهي الأمر هاهنا نحو الركون إلى مختبرات الدخائل لحل تلك الشفرات.
آثار الإنسان بعد المغادرة، بقايا الأحداث عقب فراغها، أطلال البيوت على إثر انطفاء جذوة قاطنيها، رجع صدى المنتدى العامر إذ ألقت السهرة الحافلة أوزارها، الباحة بعيد المهرجان، حجرة المعيشة في المنزل فور انفضاض جمع العائلة، قاعة الدرس وقد انصرف التلاميذ، مكتب الموظفين حين نفاد زمن العمل، مطار المدينة الصغيرة التي أقلعت رحلة يومها الوحيدة، صالة الولائم أوان بزوغ خيط الفجر، طرقات البلدة وقت السبات. يالها من بصمات، حيث تكسو مسرح المكان بعد أن خلا من الحراك، وانقلب إلى سكون مخيم، وقد أطبق عليه الصمت.
لا يتطلب الأمر أبعد من لمحة خاطفة للمكان المترع في أعقاب انصرام الفعاليات، ثم معاينة المشهد. ومن شأن إطلالة واحدة أن تفعل فعلتها، وتكون كفيلة بهطول زخات المشاعر فوق جنبات المكان.
كانت البصمات مثار بوح الشعراء، وبالأخص في القديم. في قاموسهم، هي: المنازل، و المداهل، أو المداهيل. وبالمثل، دأب العاشقون على اتخاذها سلوانا يلوذون به عن لأواء البُعد. أنكى البصمات وقعا هي تلك التي يخلّفها لنا الراحلون بلا أوبة. وقت أن تنطبع كإمضاءة في ذيل سجل الانصراف. لحظة أن نلج حجرة شقيق لنا قد تلقفته يد المنون، أو نقلّب أرشيف شريك لعمرنا قضى نحبه، أو نفضّ خزينة أحد والدينا الذي التحق بالرفيق الأعلى، أو نجوب مسرح أحداث لفها النسيان ولكنها تعني لنا الشيء الكثير، فنشاهد المكان الذي كان، وقد جاءت عليه البصمات بحذافيره، وارتسمت في كل جزيئاته على نحو موغل في الإيلام. حين يعبق كل شيء بعبيرهم، ويفصح كل سنتيمتر مربع عن فيض من الذكريات حيالهم، فلا يسعنا وقتذاك سوى أن تجود مقلتانا بالدموع. بصماتنا، نختطها رغما عنا، أينما حللنا، في كل شريحة من الزمن. وبثراء المحتوى خاصتنا، تتفتّق غزارة بصماتنا. وندع لمن يلوننا ممن هم على قيد الإنسانية مهمة التقاط نثارها.
البصمات متوارية في الدهاليز، وبين الأروقة. إنها هناك مستلقية على الأرائك، أو تتمختر جيئة وذهابا بكامل البذخ. إنها سابحة في فضاء الموقع مثل طيف، أو تراها دفينة أسفل البساط مثل نفايات نووية، ويتعين على هيئة الأحاسيس المتحدة إرسال مفتشيها للتنقيب.
قراءة البصمات بعد ثبوتها بشهادة شاهدين عدلين، العين والقلب، مدعاة لاستشراف مثيلات لها قبل الثبوت. ويتأتي للاستشراف، والقراءة المبكرة، أن يفضيا إلى الروعة والسمو. وحدهم الممتلئون إنسانية عن بكرتهم يفقهون ذلك.
التجوال بين ثنايا البصمات يئول إلى الشجن، ويستنزف المشاعر بترف، وربما يستجلب الندامة. وساعتئذ، تكمن الفجيعة. الحقيقة أنه يبعث موات القلوب وهي رميم، وينفخ الروح في أجداث البصائر، وينير الدرب للمضي قدما على صراط الحب المستقيم، ويمنح دواخلنا مفاتيح فردوس الإنسانية.
ts1428@hotmail.com
- الرياض