بمقولة للروائي العالم (غونتر غراس) يستهل الروائي منير النمر عمله الجديد (الهارب) ليشير في هذا الاستهلال إلى أن متعة القصة في تهاويها نحو حضيض المهمشين، والمنبوذين حيث يجد القارئ ما يشفي غليله، وهذا ما عمد إليه الروائي النمر حينما زج بشخوص روايته المجهدين من سهر المسافات، الساخطين على الحياة، ها هم يهذون على طاولتهم، متذكرين أن الحياة لا يمكن لها الآن إلا أن تداهن الأخرق والأجوف والمتشدقين بالفضائل، والمدعين الكمال.. لكن شخوص رواية (الهارب) يحاولون جاهدين تعرية الواقع الذي كلما ازدادت قبحياته كلما تفاقمت إدعاءاته الخائبة ببلوغ شفق الكمال.
يحاول النمر في روايته أن يكون ساخراً في تناوله للأحداث والشخوص لكي لا تكون الرؤية حادة، أو تقريرية مملة، فكأنك تبادل الشخوص رشفات شأيهم في تلك الستاءات الباردة.
حتى وإن ورد الحب في ثنايا الرواية فإنه لا يعدو كونه ديباجة للنص العام، حيث ينصرف الراوي إلى صياغة بوح حكائي يتسم بالشرود، والتهادي دون ثبات، من أجل أن تتجسد حالة الذات بكل مكنوناتها، حتى تلك الأوهام الضبابية الغائرة في الوجدان نراها وقد أضحت لامعة تفد إلى الذات دون مواربة.
فالرواية تجسد الواقع الحياتي للشخصية التي تريد التمرد من أجل صياغة رأي قوي معبر، يكشف زيف الواقع لكن هذا الرأي لا يأتي بمحض وعي كامل، أو استرشاد بما تهيله الحكاية من كرم بوحها الواقعي، إنما هي لحظة تقارب الجنون، وغياب العقل، فليس أقوى وأعقل وأتم من رؤى ربما يتفوه فيها المجنون من بين هذياناته الكثيرة.
(الراوي- البطل) يذكرنا في كل شاردة وواردة في عوالم الرواية بأنه خارج العقل، بل هو الذي خلعه كمعطف بالٍ في أول حانة وجد فيها ذاتها، أو أصبحت هي منطلقه وبداية كشفه للمستور الاجتماعي الذي يلوز عادة بغطاء من المديح الكاذب، والبوح الدعي.
الرواية تأتي على هيئة لوحات متباعدة لكن رابطها الرئيس هو الهجس الأنيق، والاسترسال المتواتر عن قضية واحدة يتجسد فيها الإنسان العربي حينما يحاول أن يفر من منغصاته لكن إسرائيل تخرج له من بين ركامات الدخان، وسحابات الأوهام المتراصة تلك التي تنتظم برابط واحد داخل وجدانه الذي يزفر ألماً وحسرة على مآل الأحلام إلى سراب.
فالبعد السياسي هو الذي يؤرق (الراوي- البطل) ويؤزم خطابه الذي لا يوجهه إلا لشريحة واحدة هي شريحة المأزومين والتعساء الذين يحلمون كثيراً، فهو يرى من خلال روايته (الهارب) أن أسوأ ما يمكن تصوره هو أن يفكر الغبي، أو يحلم التعس.
(الهارب) عنوان يناسب مقتضى الحال، حيث يمارس البطل دور الهرب من منغصات كثيرة، فلا شيء غير التسويف والمماطلة إذا ما حولت أن تعيد أمراً ما إلى نصابه.. فقد يجد بطل (الهارب) ذاته محاطاً بالكثير من المثبطات والمعوقات التي لا يقوى على تجاوزها إلا بمزيد من الجنون، والصعلكة، والخروج إلى العالم بصوت صارم، وبنبرة حادة تعري حقائق التاريخ التي يشير دائماً بأنها (مزيفة)، فهو يحاكم هنا جيلاً كاملاً، ويمحص في طوايا، ونوايا أهل هذا الزمان الذي لم يعد قادراً على لملمة ذاته في وجه النقد اللاذع، حيث تكشف الرواية الجزء الأكبر من محنة هذا الجيل بأكمله حينما تغيب مقومات الحياة المتوازنة.
في الرواية جهد واضح لكشف الحقيقة، بل هو استحضار قوي لكل خطابات العالم قديمه وحديثه، لنرى (الراوي- البطل) وقد انشغل في تدوين شهادته على العصر ولكن بلوحات متباعدة رابطها كما أسلفنا هو الهجس بما لديه من مقولات، وخواطر قد لا يجرؤ على البوح فيها إلا بهذه الطريقة المحلقة عن أرض الواقع.
*****
إشارة:
- الهارب (رواية).
- منير النمر.
- دار الانتشار العربي - بيروت 2008م.
- تقع الرواية في نحو (160 صفحة) من القطع المتوسط.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 5217 ثم أرسلها إلى الكود 82244