سأغسل يداً التاثت بمصافحته، سأغمسها في الماء سبعاً، سأعفرها في التراب سبعاً، سأرهق عيني بكاء يستنزف مآثم نظرها إليه، سأطلق أنفاسي لتنعتق من جور أنفاسه، سأسمع أذني آياً ينسيها زور كلماته، سأرجو الزمان أن يهبني زمناً ينسيني كآبة ماضيه، سأراود المكان لينزل لي عن موضع أرجم فيه كل بقعة جمعتني به، أما لساني فسأتلو به تعاويذ تمحو جناية معرفته.
حين سألت إمام الجامع عن خطيئة معرفته، وما يكفرها لي: أتسبيح أم استغفار؟
قال: الثوب المتسخ - يا بني - أحوج إلى الصابون منه إلى الطيب!
الإمهال لا يعني الإهمال، والأيام دول، وديون الحياة لا تقبل المحاصة.. هذا ما عرفته لاحقاً، في صباح يوم ربيعي وادع، شف هواؤه بنقاوة رؤية واضحة، ولطافة أنسام باردة، لم تلتبس برطوبة المكان ولا أجوائه الخانقة في مثل هذا الوقت من السنة.
كان ذلك في طريقي إلى العمل، حين رأيت ذلك الحادث المروع، يبدو إنه قد وقع للتو، قلة من المارة تلبثوا لمشاهدته، واقل منهم أولئك الذين ترجلوا من سياراتهم بدافع الفضول والفرجة، وآخرون مروا سريعاً، نظروا ومضوا غير عابئين، الكل مشغول يريد أن يدرك عمله، المتوقفون كانوا ثمانية، أنا وسبعة معي.
أحدهم كان يقول لصاحبه: هذا الدكتور ناصر، فيما صاحبه مشغول بهاتفه الجوال، يحاول الاتصال بالإسعاف، ولكن الشبكة مشغولة أو متعطلة.. هكذا سمعته يقول!
كان الوغد مضرجا في دماه، بعد أن انقلبت سيارته، ولفظته خارجها، ليهوي إلى قارعة الطريق، معانقاً إزفلتها المتعطش لدم طاغية مثله، وأنا أنظر إليه جذلاً مسروراً، في أصبوحة لم أحلم بأجمل منها، أمنية قل أن تتكرر أو أجد لها مثيلاً، وقتها كنت أتصنع الإنزعاج لما أرى، وأشارك الناس التألم لما يرون وأتمتم مسترجعاً تارة ومحوقلاً تارة أخرى.
عدد المتجمهرين أخذ يتزايد بعض الشيء، والشبكة لما تزل مشغولة، أحدهم صرخ فينا غاضباً: يا ناس الرجل سيقضي.. لنسعفه إلى أي مستشفى، استجاب البعض، تضامن المتلاومون، تحركوا من إسارهم، حاولوا إنقاذه...!
زجرتهم: دعوه.. قد ننقذه بطريقة خاطئة، فنضره ولا ننفعه.. هذه مسؤولية!
أكثر من شخص اقتنعوا بكلامي، وآخرون استدركوا ما العمل: هل نتركه يموت؟ صرخت فيهم: مهلا.. سأتصل بالإسعاف الآن!
كمطارد لهث كنت أطلب الإسعاف، آلووو.. آلووو.. المستشفى.. لو سمحت الطوارئ بسرعة.. يوجد حادث على الطريق السريع، أرجوك أدركنا بسرعة ثمة جرحى!
أغلقت هاتفي لأجيب الأعين القلقلة: الحمد لله.. أجابوا.. الإسعاف سيحضر حالاً.
الفضولي الذي كان يوالي الاتصال والشبكة مشغولة.. علق قائلاً: سبحان الله.. الشبكة مازالت مشغولة.. وعملت معك رحمة بهذا المسكين!
كان الوغد واقعاً على وجهه، ويداه مرفوعتان للأعلى، وهو أشبه بمتسلق يرقى جبلاً، أو كمن يرفعهما مستسلماً لخصم غاشم. أتراه كان يرفعهما لملك الموت لينتزع روحه الخبيثة؟
بقعة الدم المحيطة برأسه كطفح مجار ترجح ذلك، تواطؤ الشبكة على التعطل يؤكد ذلك، حضوري بالذات دون أحد زبانيته المنتفعين بوجوده يرجح أن هناك قضاء ساقني إليه.
ما لم يعلمه المتجمهرون أن هاتفي كان متعطلا كهواتفهم تماما، ولكن كان علي أن أنتحل دور المنجد الشهم لأحول بينهم وبين إسعافه!
كان الوقت يمر والوغد ينزف، ودمه النتن يغرق رأسه، حين جاءت سيارة أمن الطرق لتباشر الحادث، لا أدري من جاء بها؟!.. بعدها بثلث ساعة أقبلت سيارة الإسعاف، يسبقها صوت نذيرها المزعج، لا أدري كيف جاءت هي أيضاً؟!
لابد أن أحدهم قد ابلغ عن الحادث.. توقفت سيارة الإسعاف، هرول المسعفان إلى الوغد، باشرا إسعافه، أحدهما كان يمسك معصمه ويجس نبضه، والآخر يتحسس دقات قلبه.
سألتهما: أرجو أن لا يكون قد فارق الحياة!!
التفتا إلي وقالا: مات قبل مجيئنا، نبضه متوقف تماماً، ثم قاما وفردا النقالة، وحملاه إلى عربتهما وهما يدافعان الذباب عن رأسه ودمه.