-1-
تحدَّثنا في مساقات سابقة عن بعض مظاهر التبذير التي تظهر في بعض المسابقات الشعبيَّة والاحتفاليَّات الجماهيرية، التي ربما نهضت على حساب البشر ومصالحهم. وناقشنا بعض آثار ذلك الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وأشرنا إلى أن كُلَّ نشاطٍ لا يحكمه العقل، ويضبطه التنظيم، يصير إلى انحرافٍ وأضرار، برغم ما قد تكمن وراءه من مقاصد نبيلة. وهذا ما يحدث في بعض أنشطة الساحات الشعبيَّة على اختلافها، التي يجب ترشيدها، وتنظيمها، لا تركها هَمَلاً. كما يجب الترقِّي بها، لا الانحدار بها، ومعها، بحُجَّة المحافظة على الأصالة؛ وما كُلُّ قديمٍ أصيل، ولا كُلُّ تراث جميل، ولا كُلُّ ماضٍ للآباء والأجداد يستحقُّ الحياة أصلاً، ناهيك عن نبش التراب عنه لاستحيائه في غير زمانه. بل إن بعض ما تُزعم تراثيته اليوم - وقد يُكسب حصانة من النقد، أو تستشعر حساسية مرضيَّة لنقده - لم يُسمع قط به أصلاً في تاريخ العرب، لا في إسلام ولا جاهليَّة.
وإن الأنشطة الشعبيَّة في عمومها هي الأحرى من غيرها بعقلنة العقلاء، وتنظيم الدولة؛ من حيث إن الجِبِلَّة الشعبيَّة في كل أُمَّة من الأمم مفطورة على العفويَّة، والفوضى، والاندفاع العاطفيّ، وغوغائيَّة التحرُّك. وهي خصال مضرَّة بالانضباط الاجتماعي، والاقتصادي، والتنظيم المدنيّ والحضاري. لأجل هذا لا غرابة أن يعود بعض الاحتقان أحياناً في النفوس، وبين الفئات الاجتماعيَّة، بفضل ما تؤجِّجه مثل تلك الفعاليَّات، تردفها منتديات القَبَليَّات الإنترنتيَّة، غير المسؤول بعضها - بما أنها تُدار بأشباح، وتطرح موادُّها بأسماء استعاريَّة - وذلك بإيقاظها عصوراً غابرة مليئة بحزازات الصدور. ممَّا لا يشكُّ عاقل في أنه ليس في صالح الوطن بحال من الأحوال، ولا يتماشى مع ما يرنو إليه من تقدُّمٍ لا تأخُّر، وانشغال بما يبني ويوحِّد لا بما يهدم ويفرِّق.
وإذن، كأنه لم يكفنا حفظ المأثور الشعبي، بهدف دراسته للإفادة منه تاريخاً وبيئةً - مع أنه إلى الآن لم يُدرس ولم يُفَد منه في شيءٍ يُذكر - بل بات التوجُّه القائم إلى استحيائه في الجيل الحاضر، والأجيال المقبلة، وإلى ما شاء الله، بكل مضامينه، وحمولاته، وممارساته، بل إنه ليتمَّ الآن الانتقال من إحيائه خياليَّاً، ونصوصيَّاً، وأدبيَّاً، إلى تشكيله واقعاً حيَّاً، وفعاليّاتٍ اجتماعيّة محتدمة.
لقد كان يُفترض أن لا يُسمح لأهواء الناس القاصرة، ولا لمطامعهم الماديَّة الذاتيَّة، ولا لرؤاهم الأنانيَّة، أن تعبث بعقول الناس وعواطفهم بحجج شعبويَّة، ولا أن يغضَّ الطرف عمَّا يمكن أن يكون سبباً، ولو على مدى بعيد، في تفكيك لُحمة وطنيّة غالية لم تتمّ إلاّ بتضحيات جسام. كان ينبغي أن توجد أنظمة وطنيّة، وأخرى إقليميَّة، ذات رؤية إستراتيجيَّة، تَحُوْل دون ترك الشأن الثقافي في مهبِّ التجارة، والإعلام المنفلت، والقَبَليَّات - ذات التاريخ المجيد الضاري المعروف - سواء الداخلية المترسبة من فلول ذلك الماضي، أو من هاجر منها موجّهاً سهامه إلى الداخل. فليست من الحُريَّة الفوضى، ولا من احترام الاختلاف تغليب رغبات بعض الناس على حساب كل الناس، وتقديم ظرفيّ الثقافة على عمق الثقافة وجوهر التاريخ.
لقد تسلَّقت (الشعبيَّات، والشعوبيَّات، والشعوذات، والعصبيَّات) الأثير العربيّ منذ سنوات، بعد أن ضاقت بها الأرض بما رحبت، ليدوخ الفلك بجدليّات العرب، ودجليَّاتهم، وجاهليَّاتهم، ووثنيَّاتهم، وضلالاتهم القديمة والمستحدثة، يُبتزُّ عن طريقها المواطن العربي المغلوب على أمره، بجهله، وأُمِّيَّته، وأمراضه، وعواطفه، وحرماناته، وبكلِّ أدوائه التاريخيَّة والمعاصرة. يتمُّ ذلك في وضح النهار أو في ظلمات الليل! ومن قُدِّر عليه فقط أن يشاهد أشرطة الشاشات في بعض تلك القنوات الفضائيَّة، سيُصاب بالغثيان لما تنضح به من أَسَن النفوس، وتَفَه العقول، إنْ من حيث ما تروِّج له من تعصّب، أو من حيث ما تعبِّر عنه من إسفافٍ أخلاقيّ متداول بين مراهقي (الشات) ومراهقي القنوات. ليدرك إلى أي دركٍ بلغ مستوى العقليَّات التي تدير تلك الفضائيَّات؛ إذ لم تعد تخشى عاقبة الليالي ولا تستحيي، فما لها إذن لا تصنع ما تشاء، فتُزيِّن ما تعرضه من أعمالها بكُلِّ ما يخطر على البال من السُّخف والسَّفَه؟! وسيوقن المشاهد عندئذٍ أن درجةً من الجشع المادي اليوم قد أصبحت تغسل وجوه الجشعيين بمرقٍ، يسوِّغ لأصحابه أي شيءٍ وكُلَّ شيء.
-2-
ومن يزعم أن الشِّعر - من حيث هو فنٌّ عربيٌّ تقليديّ - بمنأى عن بذر بعض القِيَم السيِّئة، وغرسها، وترسيخها، وسقيها، وتنميتها فينا، فهو أحد اثنين: واهم، أو مغالط صاحب هوى أو مجاملة. والشِّعر العامّي - ولا سيما النبطيّ منه - هو شِعر قَبَليٌّ، ما في ذلك أدنى شكّ. قائم على تراث القبيلة ومجدها بشكل جوهريّ، مخلَّد لقِيَمها الخاصَّة، صالحة وطالحة، مرسّخ لأعرافها، بشكل مباشر أو غير مباشر. إنه الغذاء الروحي للانتماء القَبَليّ، بدءاً من بثِّ خصوصيَّة اللهجة، بنمطها الذي يظنّه أهل اللهجة - إذ يَطربون له - فتنةً فنِّية بلاغيَّة لا مثيل لها، وما هي في الواقع إلاّ فتنة بما هو أبعد من الفنِّ وأعمق من اللغة. وفي ذلك الفُتون اللَّهَجي - في حدِّ ذاته - استنهاض، وإنْ عن طريق الإيحاء، لذاكرة القرابة والعصبيّة، بحسب مصطلح ابن خلدون، ابتداءً. ثم تلحق بذلك المضامين الشِّعريَّة المختلفة، التي تستقي ماءها عن القِيَم التاريخيَّة المرتبطة بالجماعة الذين ينطق الشاعر بلهجتهم ويعبّر عن قِيَمهم. تلك القِيَم التي نُصرّ على أنها أصيلة وجميلة وإنْ لم تكن كذلك، أو لم تعد كذلك، غاضِّين الطرف عن عيوبها، وإنْ كانت فاحشة، مادحينها، متمدِّحين بها، ملتمسين لها النَّسَب في التراث العريق، أو حتى في الدِّين، ما وسعنا الالتماس.
وتأتي هنالك مضامين شتَّى من عادات العرب وتقاليدهم، المرتبطة بالعيب، وما يليق بأولاد (الحمايل) - كما يُسمّون - وما لا يليق. ومنها على سبيل الإشارة ما يتعلّق برفض العمل في بعض المهن الصناعيَّة والفنِّيَّة، التي تستنكف منها قِيَم القبيلة، وإنْ لم تكن مسترذلة، لا شرعاً ولا عقلاً. وهذه إحدى عوامل البطالة الرئيسة في بلادنا مع كثرة استقدام الأيدي العاملة، كما هي إحدى عواملها كذلك في البلدان العربيّة الأخرى التي ما تزال القِيَم القَبَليَّة ضاربة بأطانبها فيها، محميَّة دون المراجعة والنقد. ولهذا فإن (دونالد رامسفيلد)، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، محقٌّ، للأسف، حين يذهب - كما يورد عنه روبن رايت (الواشنطن بوست) - إلى أن بعض العرب والمسلمين ضد العمل اليدوي، لذلك يستقدمون العمالة من جنسيّات بشريّة أخرى كي ينوبوا عنهم في القيام بتلك الأعمال. هو محقٌّ في هذا، وإنْ كان قد علَّل ملحوظته بأن المسلمين كُسالى! وما هم بكُسالى، ولكن من الحقِّ الاعتراف - وبغضِّ النظر عمَّا يرمي إليه رامسفيلد - بأن عادات العرب توهمهم بأنهم أرفع من القيام ببعض الأعمال الحِرَفيّة، وأرفع عنصريَّاً من البشر الذين يقومون بتلك الأعمال. أفيمكن - فَرَضاً - لمن تشرّب قِيَم الشِّعر النبطيّ، أو كان شاعراً نبطيَّاً، أن يعمل خبّازاً أو حدّاداً، فضلاً عن أن يشتغل عامل نظافة؟! كلاّ لن يفعل، ولو تسوَّل، أو مات جوعاً!
وهكذا فالشِّعر لسان القبيلة الإعلامي، والمحرّك الأول لاستنهاض ما تدعوه بشِيَمها، وعاداتها وتقاليدها، أو (سُلُوم العرب)، كما تُسمّيها، وما أدراك ما (سُلُومها)؟! إنها مسلّمات لا مجال للتنازل عنها، مهما طال الزمان، أو تعارضت مع مقتضيات العقل والحياة وضرورات التطوّر. و(سُلُوم العرب) هي الحُجَّة التي يراها أصحابها دامغة في الردِّ على من ينتقد الثقافة التقليديّة في المجتمعات القَبَليّة. ولقد تُلبس لبوس الدِّين أيضاً، كي تُكسب القداسة المطلقة، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ومن ثمّ تحمي نفسها من هواجس النقد أو دعوات التغيير.
(وللموضوع بقيَّة).
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* (عضو مجلس الشورى)
aalfaify@yahoo.com