خبر وفاة الدكتور عبد الوهاب المسيري (رحمة الله عليه) كان له وقع الصاعقة المؤلمة بالنسبة لي، ليس لأنني من متابعي أعماله فحسب، بل لأن وفاته كانت بعد اتصالي به - هاتفياً - بغرض دعوته إلى المشاركة بكلمة (شهادة) عن الدكتور مصطفى محمود، لتكون ضمن مواد العدد الخاص (الصادر بتاريخ 7-7- 2008 - الجزيرة الثقافية).. فاتصالي بالدكتور المسيري كان بتاريخ 19-6-2008 وفي مقالي الذي كان افتتاحية للعدد الخاص أتيتُ في فقرة منه على ذكر بعض ردود الأفعال الطريفة - أو التي حسبتها بجهلي طريفة! - وقلت:
الدكتور عبد الوهاب المسيري، كانت إجابته (أنا تعبان بنفسي).
وبشيء من التهكم وضعتُ علامة تعجب ملاصقة للجملة، ولم أدر أن علامة التعجب تلك ستكون درساً لن أنساه ما حييت!
ففي ظهيرة الخميس 3-7- 2008 صدمني خبرُ وفاة الدكتور المسيري، وكان عدد الثقافية المذكور قد أكمل جميع مراحل إعداده وتنسيقه وإخراجه ولم يبق أمامه سوى الطباعة على الورق.. ومع أنني لستُ من مسؤولي جهاز التحرير، إلا أنه لم يكن لي بدٌّ من إجراء اتصالات عاجلة لأضيف سطراً في هامش المقال قبل أن يذهب العدد إلى مرحلة الطباعة.. فكان السطر: (فجعنا برحيل الدكتور المسيري أثناء إخراج هذا العدد، ونسأل الله أن يرحمه ويسكنه فسيح جناته).
كان من الممكن حذف الجملة التي ذكرت فيها اسم المسيري (بشيء من التهكم) ولكني فضلتُ إبقاءها وإضافة الهامش إليها لعدة أسباب..
فجواب الدكتور المسيري، المتمثل في كلمته (أنا تعبان بنفسي) كان يحمل دلالاتٍ وعِبَر.. أهمّ الدلالات وأوضحها أن الرجل كان لا يقول إلا الصدق، وكان لا يتوانى عن قول الكلمة الصادقة مهما تكن احتمالات سوء فهمها أو تأويلاتها الخاطئة واردة في أذهان الآخرين..
فقد قالها بكل عفوية وصدق (أنا تعبان بنفسي) من دون أن يعمل حساباً لأية تفسيرات خاطئة قد تصدر مني أو من غيري عند سماع هذه الكلمة جواباً لتلك الدعوة.. أما العبرة، فيجب علينا أن نعتبر بها جيداً في أثناء مخاطبتنا مع الكبار.. أنهم حين يعلنون عن (تعبهم) فهذا معناه أنهم قد وصلوا إلى نهاية الشوط مع الحياة..
و.. والله لم يكن اتصالي بالدكتور المسيري عشوائياً أو لمجرد إضافة اسم كبير إلى أسماء المشاركين في الملف - وجلُّهم كبيرٌ أيضاً - بل تقصدتُ البحث عن رقم هاتفه حتى أكلمه وأطلب مشاركته لعدة أسباب وجدتها تربط بينه وبين مصطفى محمود..
فالرجلان يعتبران من القلائل في عالمنا العربي الذين جمعوا بين (العلم والإبداع).. فكما أن للدكتور مصطفى محمود بحوثه ودراساته وأفكاره العلمية المهمة كذلك للدكتور المسيري، وكما أن لمحمود إبداعات قصصية كذلك عبد الوهاب المسيري كتب قصصاً إبداعية للصغار والكبار..
وملفتٌ أيضاً تاريخ ميلاد الدكتور عبد الوهاب المسيري - رحمة الله عليه - فقد كان مولده في العام 1938 وهو العام نفسه الذي نشر فيه الدكتور مصطفى محمود - حفظه الله وشفاه - أولى مقالاته - بحسب بعض المصادر..
ومن نافلة القول التذكيرُ بأن الرجلين يُعتبران من أشد الأعداء للكيان الصهيونيّ.
لهذا كنتُ أتمنى (أو أتعشم) أن يقول المسيري كلمة عن مصطفى محمود، في الملف - العدد الخاص- ولهذا كان اتصالي به..
أعرفُ أن ذنبي كبيرٌ في سوء فهمي (أو سوء ظني) تجاه الراحل الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري، في أيامه الأخيرة، وجوابه العفويّ الصادق (والله أنا تعبان بنفسي).. ولكنّ لي عذري العفويّ الصادق أيضاً..
ففي الفترة الأخيرة كثرت حالات الإصابة بالمرض الخبيث (السرطان) بين المثقفين والمبدعين، وكان كل من يصيبه هذا المرض يبدأ في رثاء نفسه!
حتى جاء الدور عليّ أنا، منذ سنةٍ تقريباً، وكتبتُ هنا (في الجزيرة الثقافية) ما يشبه الوداعية أو الرثاء، في مقال بعنوان (هوامش على فاتورة الكتاب الأخير).. ورحتُ أقف افتراضاً على بوابة العالم الأبديّ منتظراً منها أن تفتح لي باباً للخروج من هذه الدنيا.. ولكنّ انتظاري طال لدرجة أنني صرتُ أشكّ في فاعلية هذا (السرطان) وأصبحتُ أراه غولاً لا وجود له إلاّ في التقارير الطبية!
أو أنه فقد صلاحيته، ولم يعد قادراً على إنجاز عمل يكمل شوط الحياة.. ويأخذ المصاب إلى عوالم الموت وما بعده..
لذلك لم أكن قلقاً على الدكتور المسيري، وأنا أعرف أنه مصابٌ بالسرطان.. بينما كان جسدي كله يقشعر وأنا أتخيل حالة الدكتور مصطفى محمود مع نزيف المخ.
ولكنّ إرادة الله أثبتت لي مجدداً أنني أجهل الكثير عن هذه الأسرار، فلا المعرفة تجدي ولا التجربة تكفي ليحكم أحدنا برأيه القاصر في أمر من أمور الغيب.
أعتذر للدكتور العالم والمفكر العربي الكبير عبد الوهاب المسيري، عن سوء فهمي وسوء ظني.. وأرجو من الله العليّ القدير أن يجعل مثواه الفردوس الأعلى.. جزاء ما قدم للثقافة العربية، والتاريخ، والأدب، والفكر الإنسانيّ المتطوّر.. وأن يجمعني به في خلودٍ لا تَعَبَ لنفسٍ به وفيه.. أبداً..
****
الثقافية:
سبق للثقافية أن أفردت ملفاً خاصاً بالدكتور عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- بتاريخ الإثنين 21 من ربيع الأول 1428هـ/ 9 من نيسان «إبريل » 2007م، في عددها (194).
ffnff69@hotmail.com
- الرياض