الثقافية - القاهرة - أحمد عزمي:
في مدينة صغيرة تقع في دلتا مصر ولد المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري في الثامن من أكتوبر 1938م وعندما شب عن الطوق بحث عن أصول عائلته فقيل: إنه ينتمي إلى الأشراف وتبدأ فروع شجرة عائلته من دمنهور وتنتهي في مكة وكانت أسرته تنتمي إلى ما يسمى (البرجوازية الريفية) التي حافظت على جذورها المصرية والعربية والإسلامية وهو ينتمي أيضاً إلى جيل كان ينضج بسرعة مقارنة بأجيال هذه الأيام ففي أوائل الخمسينيات كان يشارك في المظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزي ويدعو إلى مقاطعة البضائع الإنجليزية.
شهدت حياة المسيري تحولات عديدة سواء على مستوى الفكر أم العمل فقد قدر للباحث الذي أنجز رسالتين للماجستير والدكتوراه عن الأدب الإنجليزي أن ينغمس بكليته لإنجاز عمله الموسوعي المهم (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد) كان المسيري قد تخرج في كلية الآداب جامعة الإسكندرية قسم اللغة الإنجليزية في العام 1959م ليعين معيداً بها ومن ثم يلتحق بجامعة كولومبيا في نيويورك ليحصل على الماجستير في العام 1964م وبعد خمس سنوات يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة -رتجرز بولاية نيوجرسي- ثم يعود إلى مصر للتدريس في قسم اللغة الإنجليزية بكلية البنات جامعة عين شمس، ويصدر أولى مؤلفاته المهمة (موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية) في العام 1975م، بعدها يعود إلى أمريكا لمرافقة زوجته أثناء حصولها على الدكتوراه ويعمل خلال تلك الفترة مستشاراً ثقافياً للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك وفي العام 1983م ينتقل إلى الرياض للتدريس بجامعة الملك سعود وهي الفترة التي سنركز عليها حيث تعرض لها المسيري في مذكراته التي صدرت تحت عنوان (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار).
يقول المفكر الراحل: (لقد أحببت السعوديين إلى درجة كبيرة إذ وجدت بين طلبتي وفاء وطيبة وذكاء خارقاً، وفكرت مرة في أن أرتدي الزي السعودي حتى لا يشعر طلبتي بأن أستاذهم مختلف عنهم، فنحن كلنا عرب ومسلمين خصوصاً وأن ابني كان يرتدي (الثوب السعودي) لأن هذا هو الزي المدرسي ولكنه أحبه وقضى السنوات الثلاث التي قضاها في السعودية مرتدياً الثوب وكنت أشجعه على ذلك بسبب الإحساس بالمساواة الذي يولده الثوب فهو لا يفرق بين الخفير والأمير.
وتحدث المسيري مع صديق سعودي في هذا الأمر فحذره من أن يفعل ذلك لأن البعض قد يفهمه على أنه محاولة للتقرب من السعوديين وشكل من أشكال النفاق وهو التحذير الذي استسلم له المسيري الذي يعترف بأنه قضى ست سنوات من عمره، حيث وجد نفسه في جو ثقافي متميز، (فجامعة الملك سعود، كانت جامعة عربية بمعنى الكلمة، فهيئة التدريس فيها كانت تضم أساتذة من كل أنحاء العالم العربي، مما أتاح التعامل مع هذا التنوع العربي العظيم).
ويقول المسيري: كان الجو الثقافي في الرياض فريداً، فمعظم المثقفين هناك ليس عندهم هموم اقتصادية كبيرة، وتفاصيل حياتهم قليلة وكنا كأساتذة ضيوف (متعاقدين كما كنا نسمى) عندنا من الهموم والتفاصيل ما هو أقل، ونظراً لتفرغنا شبه الكامل هذا وجدت نفسي أحضر عدداً لا حصر له من الندوات في الجمعيات الثقافية، فعلى سبيل المثال كانت هناك ندوة الأدب المقارن التي تعقد مرة كل أسبوع في كلية الآداب، ويحضرها أساتذة من قسمي اللغة العربية واللغة الإنجليزية، حيث كنا نتناقش في كل الموضوعات في جو أخوي، كما كنت أحضر ندوة فلسفية باللغة الإنجليزية تجتمع مرة كل شهر وتضم الأساتذة الأجانب ممن لا يجيدون العربية.
وقد توطدت أواصر الصداقة بين المسيري والأساتذة حيث تعرف إلى د. سعد البازعي، وكان عائداً آنذاك إلى السعودية من الخارج (عام 1983م) ونشأت بينهما صداقة فكرية تركت في نفسه أعمق الأثر، وظل المسيري حتى أخريات عمره يتبادل الرسائل ود. البازعي، وهي دعوة لأن ينشر د. البازعي جانباً من هذه الرسائل، التي لابد كانت تتضامن نقاشات في قضايا عامة، كانت تلك الأيام التي قضاها د. المسيري في السعودية، كما يقول: (من أسعد أيام حياتي وأكثرها ثراء من الناحية الفكرية) وطوال هذه المدة كان يدرس الأدب الإنجليزي.
وإذا كانت الموسوعة أهم إنجازات المسيري فإنه يذكر بعض من كان لهم الفضل في تفرغه لها والعكوف عليها، ومن هؤلاء سامي عبده، وكان يعمل في أحد المصارف بالمملكة العربية السعودية، وقد بذل جهداً خارقاً -كما يقول المسيري- في أن يتفرغ للعمل في الموسوعة عن طريق بيع نسخ من الطبعة الفاخرة للموسوعة لبعض أصدقائه قبل النشر، ما أسهم في تحقيق التفرغ اللازم، (وكانت جامعة الملك سعود في غاية الكرم) إذ اعتمدت مبلغاً من المال لشراء بعض الكتب، ولتغطية بعض بنود التكاليف الأخرى على حد تعبير د. المسيري، كما خصصت له مكتبتها غرفة، يحتفظ فيها بكتبه، كان يقضي فيها الساعات الطوال، وساعدته حواراته مع د. سعد البازعي ود. عزت خطاب على تطوير أفكاره وتدعيم إحساسه بأن ما يقوم به له معنى، وكان د. خطاب (رئيس القسم) لا يوكل له أعمالاً إدارية، ما جعل إقامة د. المسيري في السعودية تشبه التفرغ الكامل للتأليف.
في الرياض تفرغ د. المسيري لإنجاز موسوعته المهمة، التي بدأ العمل بها يتحول إلى مؤسسة، إذ أصبح لديه هناك مكتب للترجمة المصرية، يزوده بأهم المقالات في الصحف الإسرائيلية، وكان يحرر باباً أسبوعياً في جريدة الرياض بعنوان (إسرائيليات معاصرة) توقف عن تحريره عندما لاحظ أن انشغاله بالحدث اليومي بدأ يقوض رؤيته البانورامية الموسوعية التي تركز على الثوابت، وتتطلب إيقاعاً بطيئاً، واهتماماً بموضوعات تاريخية وفلسفية وجوانب إستراتيجية، ربما لا يكون لها علاقة مباشرة بالحدث اليومي.
وبعد وصوله إلى السعودية بأشهر عدة، وصلته ست رسائل من (جماعة كاخ) الإرهابية الصهيونية تطلب منه التوقف عن نشاطاته المعادية للصهيونية، وإلا قاموا بقتله، وهذه ضمن رسائل أخرى وصلت إلى عنوان د. المسيري بالقاهرة، وقد اعترف مائير كاهانا بأنه هو الذي أرسل هذه الخطابات، التي قابلها د. المسيري باستخفاف، غير مصدق ما بها، لكنه أبلغ مباحث أمن الدولة في مصر ووزير الداخلية السعودي بالأمر.
ويعود د. مسيري ليؤكد في أكثر من موضع بسيرته الذاتية إلى أهمية الفترة التي قضاها بالرياض (1983- 1988م) حيث كانت تعقد ندوة شهرية، تنظر في التحيزات المعرفية المختلفة، وكانت تضم د. سعد البازعي، د. منصور الحازمي، ود. محمود الزواوي، ود.عزيز العظمة، ود. عزت خطاب، ود. سعد الصويان وغيرهم، وقد ظلت الفكرة تراود د. المسيري إلى أن عقد مؤتمراً في القاهرة عام 1992م، بعنوان (إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد) صدرت أوراقه في كتاب يضم ستين بحثاً.
السنوات الست التي قضاها د. المسيري في السعودية لم تكن كلها مكرسة للجدية والتدريس والعمل، فهو يحكي في مذكراته موقفاً طريفاً عندما أراد تجديد رخصة القيادة، وحين ذهب إلى الجهة المعنية بهذه الأمور وجد مئات الشباب أمام شباك تجديد الرخص، فعرف أنه سيضطر إلى التغيب عن المحاضرات، وقرر: إما أن يتغيب عن المحاضرات أو يغير الرخصة بنفسه، فذهب إلى منزله وغير تاريخ الرخصة وصورها، لأن التغيير لا يتضح في الصورة، وتصادف أن ارتكب مخالفة مرورية بسيطة فطلب منه الضابط الرخصة، فأعطاها له، ولاحظ على الفور أن هناك تلاعباً بها فطلب منه أن يركب معه سيارته تمهيداً لترحيله إلى السجن بتهمة التزييف، فأخبر د. المسيري الضابط بأنه أستاذ جامعي وأن القبض عليه دون سبب واضح ليس أمراً هيناً، وما ساعد على دعم موقفه أن أحد المقبوض عليهم كان من قراء د. المسيري. وأخذ يناقشه في ترجمة معروف الدواليبي لأعمال ديستوفيسكي، وبعد شد وجذب وافق الضابط على أن يصطحب د. المسيري إلى منزله، ليرى صورة الرخصة، الذي وجد أن صلاحيتها انتهت منذ أسبوع، فأوصاه بتغييرها، وتركه إلى حال سبيله.
ومن المواقف الطريفة التي واجهها د. المسيري في السعودية أنه ادخر مبلغاً من الدولارات، أودعه في أحد البنوك، وبدأ سعر الدولار ينخفض، وفي خلال عامين أو ثلاثة فقد ربع المبلغ فنصحه أحد الأصدقاء بأن يحول نقوده إلى ذهب، ثم يبيعه عندما يرتفع سعره، لكن حظه السيئ أن عمال المناجم في جنوب إفريقيا أضربوا عن العمل، فانخفض سعر الذهب، ولم ينقذه من هذا المأزق سوى انهيار الأسهم والسندات في أمريكا، فارتفع سعر الذهب، فنصحه أحد الأصدقاء بأن يبيع ما لديه، وانتهت مغامرة د. المسيري في عالم تجارة الذهب بحد أدنى من الجروح على حد تعبيره.
ولأنه يعرف أن المساومة إحدى آليات السوق، وأنها تخلق موقفاً من الصراع الهادئ، يمكن مراقبة البشر فيه، فقد ذهب إلى الديره القديمة بالرياض، ودخل في مساومة حادة مع رجل عجوز، اشترى منه سجادة، ونسي الهدف من المساومة ودفع له الثمن الأعلى الذي كان قد طلبه الرجل منذ البداية.
وبينما كان د. المسيري يتجول في السوق فوجئ بالرجل يبحث عنه ليعيد إليه المبلغ الأعلى مما اتفقا عليه بعد المساومة، فرفض د. المسيري وأصر الرجل، وبعد شد وجذب، لم يقبل الرجل إلا بعد أن وضع يده في يد المسيري وقرأ معه الفاتحة، وطلب منه أن يردد وراءه (الله يبيحك) ثلاث مرات بمعنى أنه سامح الرجل، وعندما فعل د. المسيري ذلك استراح الرجل وذهب إلى حال سبيله.
هذا جانب مما رواه د. المسيري عن السنوات التي قضاها في السعودية، وفيها عرفان بالجميل، تكلل بما تعرض له قبل رحيله بأقل من سنة، حين أصيب د. المسيري بالمرض، وفي الوقت الذي تنكر فيه الجميع، تكفلت المملكة العربية السعودية بعلاج المفكر الكبير في أحد المستشفيات الأمريكية، ليعود إلى مصر، ويمارس نشاطه السياسي العام إلى أن استرد الله وديعته وقد كانت (الجزيرة) وفيّة له في ملف خاص نشر قبل أكثر من عام.