تأليف: د. صلاح نيازي دار المدى 2008
يتناول المؤلف فنون وجماليات الشعر في نصوص (ملحمة كلكامش). وهي ملحمة سومرية مكتوبة بخط مسماري على 11 لوحا طينيا اكتشفت لأول مرة عام 1853 م في موقع أثري اكتشف بالصدفة وعرف فيما بعد أنه كان المكتبة الشخصية للملك الآشوري آشوربانيبال في نينوى في العراق، ويحتفظ بالألواح الطينية التي كتبت عليها الملحمة في المتحف البريطاني. الألواح مكتوبة باللغة الأكادية ويحمل في نهايته توقيعا لشخص اسمه شين ئيقي ئونيني الذي يتصور البعض أنه كاتب الملحمة التي يعتبرها البعض أقدم قصة كتبها الإنسان.
يقول الشاعر الألماني ريلكه (ملحمة كلكامش) مذهلة، اعتبرُها من أهم الأمور التي يمكن أن يصادفها الإنسان..لقد أغرقت نفسي فيها، فخبرت في تلك الكِسَر الهائلة من الألواح المفخورة أنظمة وأشكالا تنتسب إلى الأعمال المجوّدة التي أنتجتها الكلمة الساحرة على طول تاريخها.
وقد صدرت لها ترجمات عديدة، كما صدر بشأنها الكثير من الدراسات النقدية، وأبدى عدد كبير من الكتاب والأدباء، في الشرق والغرب، إعجابه بهذا الأثر الأدبي الخالد الذي ينطوي على تصوير الصراع الأزلي بين الخير والشر، وهو مفعم بالخبرة والحكمة والتأمل والحيرة.
والسؤال الذي يطرحه المؤلف: أين يكمن سر هذه الملحمة؟ هل يكمن في تاريخيتها؟ أم في خيالاتها الخرافية؟ أم في أسئلتها الفلسفية؟ لاشك أن هذه العناصر مجتمعة، أي: التاريخ، والخرافة، والأساطير، والألغاز، والفلسفة، والحكمة، والتأمل... هي التي منحت هذا العمل قيمته، غير أن الشكل الأدبي والفني الذي سُردت، من خلاله، هذه العناصر كان له، كذلك، دور في التأثير، فالتاريخ والفلسفة والخرافة، كما يقول المؤلف (لا يكون مؤثرا فنيا، إن لم يمر بتقنيات مختلفة، مبتكرة ومتطورة). لذلك اقتصر الكتاب على مناقشة جانب واحد فقط من الجوانب المتعددة التي تزخر بها ملحمة كلكامش وهو تقنيات وأساليب الإنشاء الشعري التي اعتمدها مؤلف (أو ربما مؤلفو) هذا النشيد الشعري الخالد.
يقول المؤلف في سعيه لاكتشاف تقنيات وأدوات شاعر الملحمة: (كنت حريصا منذ البداية على أن أجيب على كيفية القول لا عن دوافعه، عن تأثيره لا عن شرعيته. بكلمات أخرى كان الهم الأول والأخير أن اكشف عن موهبة الشاعر في التأليف قدر المستطاع: كيف كتب، مثلا، رثاء كلكامش لأنكيدو؟ كيف صوَّر الطوفان، وما هي الأدوات والأجهزة التي استعملها؟ كيف صوَّر الخوف؟ كيف صوَّر خيبة الإنسان التامة؟).
(إن المعرفة والصداقة ومواجهة الموت هي الأركان الثلاثة التي تنتظم ملحمة كلكامش بنيويا، متوسلة في ذلك أسلوبا حواريا بوجهة نظر أخلاقية غائية، مبثوثة في نسيج نص مفعم بالألغاز والطقوس المثيرة. إنها في غالبيتها مكتوبة بطريقة الشيفرات أو الأكواد، كما يقول (روبرت تامبل) احد أهم شراح ملحمة كلكامش في الانكليزية، فهي من ناحية تشبه قصة دنيوية زاخرة بالأحداث، ومن ناحية أخرى تفسح المجال للكهنة والعلماء أن يخفوا معانيها الأعمق بواسطة استعمال التورية والترميز. وتشكل صيغة الأسئلة الاستنكارية، واستعمال الحوار الخارجي أي الديالوغ كرد فعل على الحوار الداخلي أي المونولوغ، والبكاء على الأطلال، وتقديس الأشجار والتشاؤم من الطيور، والمساجلات بين وجهات نظر متباينة، والمنافرة وهي أن يفتخر رجلان كل على صاحبه ثم يحكمان بينهما رجلا آخر، واعتماد صيغة التكرار، وكثرة التشبيهات، ودلالة النور والظلام والأبواب، وتكنيك الوزن الشعري، ونقل الحدث من الماضي إلى الحاضر، وجعل الخرافة واقعا ملموسا، تشكل بمجملها مجموعة من الحيل الأدبية واللمح الفنية التي تجعل من نص ما نصا أدبيا وليس شيئا آخر).
يقول (إبراهيم حاج عبدي) في قراءته لهذا الكتاب: (يتحدث المؤلف في البداية عن الملحمة كمسرحية، مشيرا إلى أن ملحمة كلكامش هي (أول ملحمة في تاريخ الأدب، مرّ عليها، الآن، أكثر من أربعة آلاف سنة، ولو صح ما افترضه النقاد الأجانب من أن الملحمة عمل مسرحي، فإننا نكون أمام (أول نص مسرحي في تاريخ الأدب). وهو يقدم، بشكل مختصر، أهم الفصول في هذه الملحمة، إذ يتحدث عن أنشودة الاستهلال التي تتحدث عن صفات ومزايا وقدرات كلكامش (لقد أبصر الأسرار، وكشف الخفايا المكتومة، وجاء بأنباء ما قبل الطوفان). ثم يتحدث عن انكيدو الذي كان يعيش عاريا مع الحيوانات إلى أن روضته شمهات التي عادت به، من الأدغال، إلى مدينة أوروك، فيصبح صديقا حميما لكلكامش، ومن ثم يذهبان، معا، إلى غابة الأرز لقتل الشر المتمثل في العفريت خمبابا، وينجحان في ذلك، ثم يقتلان، كذلك، الثور السماوي الذي جاءت به عشتار للانتقام منهما، وبعد ذلك يموت أنكيدو فيرثيه صديقه رثاء مرا، ويبكيه عله يعود إلى الحياة ولكن دون جدوى. عندئذ، يبحث كلكامش عن سر الخلود فيخفق في ذلك، ويسمع قصصا مهولة عن الطوفان، ويعود مجددا إلى أوروك مقتنعا بان الموت قدر لا مهرب منه. يلاحظ الباحث أن ثمة تكرارا لبعض الفقرات والمقاطع في هذه الملحمة، وفي الوقت الذي يرى فيه بعض النقاد في هذا التكرار عيبا فنيا، فان نيازي يعترض على هذا الاستنتاج السهل، ويقول: لا بد من تعيين موقع التكرار. أي ما توقيته؟ ما مكانه ؟ ما ظروفه؟ ومادام التوقيت يختلف، والمكان يختلف، وكذلك الظروف، إذن تتعدد دلالات التكرار بتعدد تلك الاختلافات، وهو يختار الكثير من الأمثلة للتدليل على أن للتكرار أهمية فنية وجمالية في هذه الملحمة. وفي فصل تحت عنوان (مَلَكَة التشبيه في ملحمة كلكامش)، يرى الباحث بان التشبيه في هذه القصيدة الملحمية تدلل على قدرة شاعرها على تقمّص الكائنات الحية والجامدة واستنطاقها، وهذا ما يندر وجوده في الشعر العربي، كما تدلل على سعة وشمولية الذهنية التي تقف وراءها، بحيث يصبح المشبَّه والمشبَّه به توأمين يولدان وينموان معا، ولا يكمل وجود أحدهما إلا بوجود الآخر، وهو يوضح بان عملية التشبيه في ملحمة كلكامش تمر بثلاث مراحل متواشجة. المرحلة الأولى احتفالية تمهيدية، ثم يولد التشبيه ولادة عفوية وحتمية في آن، وفي المرحلة الثالثة يبدأ التشبيه بالعمل داخل الصور الشعرية اللاحقة. وهو هنا، أيضا، يورد أمثلة كثيرة للبرهنة على صحة ما نظّر له.
ويتحدث نيازي عن الوزن الشعري والإيقاع الموسيقي في هذه الملحمة، ويذكر عدة أمثلة، ليصل إلى استنتاج بان هذه الملحمة مكتوبة على بحر الخبب، وتفعيلته الأساسية إما فِعْلُنْ أو فَعِلُن، وهو بحر متولد من بحر المتدارك.
ونظرا لكثرة ورود مفردة (الباب) في هذه الملحمة، يجتهد الباحث لإعطاء تفسير لكل باب من الأبواب الواردة في الملحمة، فهناك الباب الذي تعارك أمامه كلكامش وانكيدو وأصبحا بعد هذه المصارعة صديقين.. وكذلك هناك باب (العالم السفلي) الذي تهدد عشتار بتحطيمه إن لم تحصل على الثور السماوي، وهناك الباب الذي خاطبه أنكيدو، وباب غابة الأرز التي يحرسها العفريت خمبابا، وباب حانة سيدوري الموصد... وغيرها من الأبواب التي تحمل كل منها دلالة خاصة في سياق هذا النص الملحمي.).
يقع الكتاب في (184) صفحة من القطع المتوسط.