الثقافية - أحمد صالح الهلال:
يبقى السؤال حائراً حينما تلتقي برجل كمحمد العلي، تحاوره لكنك تكتشف بأنك لا تعرف عن الرجل الكثير، فهو يقول نصف الكلام ويجعلك تخمن في نصفه الآخر، فهو على سبيل المثال حينما تسأله عن الحداثة في المملكة الذي يعد رائداً من روادها ومدى ما تحقق منها، يجيبك إجابة قد تبدو ميتافيزيقية بأن ما نحتاجه للوصول إلى الحداثة (ثلاثة أشهر ضوئية..!!!) لذا تجد السؤال يولد السؤال لماذا (ثلاثة أشهر ضوئية)؟ وماذا يعني الرجل بهذا؟ بل أكثر من ذلك لماذا يصر محمد العلي على عدم توثيق تجربته، أو حتى ينظر للحداثة، الذي خاض المعارك لأجلها، أسئلة كثيرة وعلامات استفهام قد تتوالد لكن دون أن تجد لها إجابة، أوقد تجد نصفها وتخمن الأخرى...
باختصار محمد العلي كما هي قصيدة الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي (الذي يأتي... ولا يأتي). بقي أن أقول... إن هذا الحوار لم يكن مرتباً مسبقاً مع محمد العلي، فلقد كنت أخذت منه موافقة بالمشاركة معي في تحقيق أُعده للمجلة الثقافية سوف ينشر لاحقاً إن شاء الله، لذا كان من المفترض أن يكون هذا الحوار سؤالاً واحداً، ولكنه امتد لما يقارب الساعتين حديثاً ثقافياً شاملاً في شتى المواضيع كان منها هذا الحوار، الذي كان ابن لحظته وساعته، لذا وجدت به مادة قد تضيء شيئاً خافياً في مسيرة محمد العلي غير المدونة مع سبق الإصرار (الإصرار من محمد العلي طبعاً) ومع هذا قد يجد القارئ بعض القصور الذي نسأله أن يلتمس لنا عذراً..
****
* كيف تصف حال ثقافتنا اليوم، البعض يرى بأن ما نمارسه اليوم لا يعدو كونه ترفاً ثقافياً لا أقل ولا أكثر؟
- لا نمارس ترفاً، نمارس تخلفاً والفرق هائل بين الترف وبين التخلف، الترف لا يصل إليه مجتمع إلا بعد أن يمر بصعود معين، صعود اقتصادي وفكري، يطمئن على ذاته، إذا اطمأن المجتمع على ذاته يصل إلى مرحلة الترف أما إذا لم يطمئن على ذاته لا يمكن أن يصل إلى مرحلة الترف، يصل إلى مرحلة التخلف. نحن مجتمع متخلف لا مترف.
* حتى ونحن نمارس الحداثة إن جاز القول؟
- نحن لم نخلق الحداثة... نحن نحاول أن نزرع الحداثة، حتى الآن لم نصبح حداثيين، بيننا وبين الحداثة كما كتبت... ثلاثة أشهر ضوئية..!! حتى نصل إلى الحداثة، هذا يعني أن ما بيننا وبينها شيء كبير.
* كأنني أفهم من إجابتك بأنك تنفي عنك تجربتك كرائد من رواد الحداثة في المملكة؟
- لا..لا..لا لأنني لا زلت أكثر إلحاحاً على الحداثة، وهذا لا يعني بأنني زرعتها.. أنا أحاول أن أزرعها.
* أنت لا زلت مواظباً على كتابة المقال اليومي، هذا يعني أنك لا ترفض الكتابة، ولكنك في نفس الوقت ترفض تأليف كتاب والتنظير لما تدعو إليه من حداثة وغيرها، أليس في هذا تناقض.. لماذا حتى الآن لم تؤلف كتاباً وأنت رائد من رواد الحداثة في المملكة.. هل المقال يرضي غرور وطموح محمد العلي؟
- يرضي أو لا يرضي هذا شيء خاص بي لا أستطيع الإجابة عنه...!!! فأنا هذا وضعي.
* أستاذي... أنت شخصية عامة الكل يرغب أن يعرف رأي محمد العلي في الحداثة وغيرها كرائد من رواد الثقافة في المملكة؟
- أذكر بأني كنت في نادي الرياض الأدبي، وقال لي شخص أنت أبو الحداثة، فكان ردي له بالنفي، لأن الحداثة ليس لها أب ومن يدعي أنه أبو الحداثة كاذب.
* ولكن هناك من أتى بعدك ونظّر للحداثة، وكتب حكايتها كالدكتور عبدالله الغذامي على سبيل المثال، لأن هناك من يقول إن الغذامي سحب البساط من كل من أتوا قبله، لأن الرجل بكل بساطة قدم نتاجاً؟
- نحن باقون ولا يمكن أن يأتي أحد ويأخذ مكاننا، فحينما بدأنا الحداثة الغذامي كان طالباً في الجامعة ولم يتخرج بعد، ولكنه في كتابه (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) نسب كل شيء لنفسه.
* أفهم من كلامك كأن هناك حكاية أخرى للحداثة غير التي رواها الغذامي؟
- الحداثة ليس لها أب وليس لها مصدر واحد، مصدرها الفن والعلم والاقتصاد وغيرها من العلوم، أما أن يأتي شخص من آخر الدنيا ويقول أنا من أوجدت الحداثة، فهذا ادعاء آثم... آثم.
* هل ينفي هذا عن الغذامي بأنه صاحب تجربة حداثية وناقد كبير؟
- لا شك أن الغذامي ناقد كبير وقارئ ممتاز، ولكن مشكلة الغذامي أنه يأخذ من غيره وينسبه لنفسه، فالنقد الثقافي مصطلح غربي أخذه من الكاتب العراقي محسن الموسوي، الذي نقله الموسوي عن الغرب وكذلك النسق وحديثه عنه في أغلب ما يكتب أخذه من كمال أبوديب، حتى لغة الغذامي مأخوذة من نازك الملائكة إضافة أن الغذامي تضخمت لديه الذات وإلا كيف يأتي لمرجع حداثي كبير كأودنيس وينعته برجعي.
* لو كتب محمد العلي حكاية الحداثة بم ستختلف عن حكاية الغذامي؟
- لو أكتب لخالفت الغذامي كثيراً، لأنه تحدث عن حداثته هو.
* الغذامي أرّخ للحداثة على مراحل، وكانت أولى هذه المراحل مرحلة العواد وحمزة شحاتة، ووصفهم بالحداثيين هل هم حداثيون؟
- العواد وحمزة شحاتة كان لديهم حنين للحداثة.
* هل ترى الحداثة نجحت في مجتمع محافظ كمجتمع المملكة العربية السعودية؟
- الحداثة أنا عرفتها ووضعت لها تعريفاً، هناك من يعرف الحداثة بعدد الحداثيين، وهذا تعريف ليس صحيحاً، الحداثة أن لا يسبقك التاريخ، هذا هو مفهوم الحداثة، هل نحن سبقنا التاريخ أم لا أعتقد بأنه سبقنا بكثير، لهذا نحن نحتاج إلى ثلاثة أشهر ضوئية..!! حتى نصل إلى الحداثة.
* ثلاثة أشهر ضوئية هذا فيه مبالغة، هل يئس محمد العلي من الحداثة؟
- لا أعتقد أني يائس.. ولا أعتقد أني متفائل أرفض هذا.. أنا إنسان موضوعي.
* هل هناك مصطلح آخر اليوم ينازع الحداثة مشروع التطوير والرقي في ثقافة المجتمع، أم لا زال مصطلح الحداثة هو المتفرد في عملية التطوير من وجهة نظرك؟
- الحداثة ما هي، هي مرادفة لسيادة العقل، وسيادة العقل لا تكون إلا بتغير، لأن كل ما لدينا غير عقلي.. أسطوري، نحن نعيش على الأساطير، فالخروج من هذا هو الحداثة.
* تقصد مرجعية العقل؟
- طبعاً...
* مرجعية العقل دعوة ليبرالية هل تقصد هذا؟
- طبعاً...
* أفهم من كلامك بأن المجتمع حتى يكون حداثياً يجب أن يكون ليبرالياً؟
- الليبرالية خطوة أولى إلى الحداثة لا يمكن أن تكون بدونها.
* هل يمكن أن تكون الليبرالية في مجتمع محافظ كمجتمعنا؟
- لا يمكن, وضعنا مناقض لكل هذا, لليبرالية والحداثة, كل ما لدينا هو حداثة مادية أما حداثة المعنى فلم نصل لها حتى الآن.
* قد يفهم الآخر النقيض للحداثة والليبرالية بأن حديثك هذا أشبه بدعوة إقصاء، فهولا يمكن أن يقبل الحداثة والليبرالية مرجعاً له؟
- نحن لسنا بإقصائيين، نحن لا نرغب بإقصاء أحد.
* كيف وأنت تقول بليبرالية المجتمع، هل تتوقع من الآخر أن يجلس مكتوف الأيدي؟
- طبعاً.. يحتاج هذا إلى صراع، لذلك نحن لم نزل.. لم تصبح لدينا حداثة لأن الصراع لم يزل، فنحن الآن نعيش في جو صراعي بين البقاء على الماضي أو الذهاب إلى المستقبل.
*أفهم من كلامك بأنكم لا تزالون في البداية؟
- طبعاً... في بداية البداية وليست فقط البداية، بيننا وبين الحداثة زمن وصراعات، الغرب لم يصل للحداثة بسهولة.
* يقال بأن الحداثة عرفها العلي بالعراق حيث كان يدرس في النجف؟
- الحداثة كما قلت لك شيء نسبي، نحن وعينا في العراق على زمن سبقنا بكثير.
* في العراق هل ارتبطت مع حداثيين، علاقتك بمن كانت؟
- نحن كنا شلة في النجف خاصة، أنا كنت مع مصطفى جمال الدين ومع محمد بحر العلوم، وجميل حيدر ومع صالح الضالمي وضياء الخاقاني ومحمد حسين فضل الله، مع هذه الشلة التي كانت في ذلك الوقت.
* وبعد ذلك ماذا حدث؟
- أنا انفصلت عنهم، صحيح أنهم كانوا ضد الوضع القائم، ولكن ليس بالتطرف الذي عندي، أنا كنت متطرفاً؟
* تعترف بأنك كنت متطرفاً؟
- بالنسبة لوضع النجف نعم أعترف بأني كنت متطرفاً.
* هل تندم على شيء في تلك المرحلة (مرحلة العراق)؟
- لا.. أبداً
* لكن التطرف صفة مذمومة؟
- أعني الشيء النسبي، أنا كنت متطرفاً بالنسبة لهؤلاء، وهذا لا يعني أني كنت متهوراً.
* من أستاذك في هذه المرحلة؟
- المجموعة التي كانت في العراق ككل وليس النجف فقط.
* هل هناك أستاذ محدد أخذ منه محمد العلي - إن جاز القول - الحداثة؟
- ليس لدي مصدر وحيد للحداثة، لدي مصادر كثيرة، ومن ضمن هذه المصادر الشاعر أدونيس.
* هل ترى أدونيس مرجعاً للحداثة؟
- نعم أرى أدونيس مرجعاً من مراجع الحداثة.
* هناك من نعت الفكر الحداثي باليهودي، وأظن أن الغذامي ذكر هذا في حكاية الحداثة، معلقاً على ما قاله الدكتور سعد البازعي عن مرجعية الفكر الحداثي لليهود؟
- معنى هذا أن العالم لم يتطور إلا من خلال اليهود، هذا كلام غير مقبول.
* إذا كانت الحداثة مرجعها العقل وليس لها مصدر محدد، ما الضير أن يكون اليهود مصدراً لها؟
- الحداثة ليس لها مصدر واحد، حتى تقول هذا مصدره كذا اليهود أضافوا والمسيحيون أضافوا والهنود أضافوا... الحداثة مسيرة، الحداثة صيرورة، هذه الصيرورة اشترك بها كل العالم، ليس فقط اليهود أو النصارى أو المسلمين.
* ما رأيك بمن حاول أن يجد مقاربة بين مفردات كالحداثة والاجتهاد والتجديد ويطرح الاجتهاد أوالتجديد في مقابل الحداثة، كحل له قبول واسع في المجتمع؟
- الاجتهاد عرّف تعريفاً قاصراً، يعرف الاجتهاد ما لا نص فيه يجوز فيه الاجتهاد، هنا حددنا مساحة الاجتهاد إذا عرفناه بهذا التعريف لكن النص هل يمكن الاجتهاد فيه، يقولون لا يمكن الاجتهاد في النص.. (طيب) النص إذا كان ذا قراءات مختلفة، هل القراءات المختلفة لم تولد من الاجتهاد؟ ولدت من الاجتهاد، إضافة أن قراءات النص المختلفة هي نفسها اجتهاد، إذاً الاجتهاد يأتي من النص، وليس فقط ما لا نص فيه، هذا المفروض، لكنهم حددوا الاجتهاد بما لا نص فيه، معناه قيدوا الاجتهاد، وأصبح تعريف الاجتهاد أن لا اجتهاد.
* الغذامي عرف الحداثة بالتجديد الواعي، معنى هذا أن مفردة التجديد لها قبول حتى عند الحداثيين أنفسهم؟
- دعنا نقل بأن التجديد معناه الاجتهاد في مفهوم النص بأن أجعله يؤول إلى كذا، لكنهم هم سلبوا الاجتهاد من معناه الحقيقي، قيدوه وكبلوه بما لا نص فيه، هنا حرموا النصوص كلها من التأويل والتأويل مهم.
* لكن التأويل موجود عند بعض المذاهب الإسلامية؟
- التأويل موجود عند بعض الفرق الإسلامية، لكن ما هو الآن سائد هو التفسير وليس التأويل، التأويل الآن محارب، وهذه هي العلة.
* كتبت الشعر ولكن حتى الآن لم يستهوك نشر ديوان يوثق تجربة محمد العلي؟
- إن شاء الله سوف يصدر لي قريباً ديوان جمع مواده أحد الأصدقاء.
* أنا أتحدث عن رغبتك أنت بنشر ديوان ولا أتحدث عن رغبة الآخرين بجمع وطباعة ديوان لك كما فعلت الكاتبة المغربية عزيزة فتح الله؟
- رغبتي أنا..؟. لا يمكن أن أجمع أو أطبع ديواناً!
* إذاً لماذا كتبت الشعر؟
- كتبت الشعر حتى يقرأه الناس، وأضنهم قرؤوه.
* لكن كيف سيقرؤن الأجيال اللاحقة وأنت لم تجمعه بديوان؟
- الأجيال اللاحقة سوف يأتيهم شعراء كبار أكبر مني.
* ألمس من إجابتك هذه تناقضاً، فحينما قلت لك بأن الغذامي أتى بعدكم وسحب البساط من تحت أقدامكم قلت لا نحن باقون ولا يمكن أن يأتي أحد ويأخذ مكاننا؟
- سوف يأتي شعراء بعدنا، ولكن نحن أدينا ما علينا وأثرنا بلا شك.
* يقال إن من أسباب عدم نشرك لديوان هو أنك تخشى أن يحجمك القارئ في هذا الديوان؟
- أنا أخشى أن أحجم نفسي ومن ثم أقف، لا علي من القارئ.
* أرغب أن أعيدك إلى الوراء بما يقارب العشرين عاماً.. قراءة ساخنة في كتاب بارد، المقال الذي نشرته في ثلاث حلقات في جريدة الوطن الكويتية، رداً على كتاب الشيخ عوض القرني (قراءة ساخنة في كتاب بارد) ما السبب الذي دفعك أن تخذ هذا الموقف الحاد برد على كتاب عوض القرني برغم أن القرني في ذلك الوقت لم يكن مشهوراً، ولماذا نشرته في الوطن الكويتية بالأخص؟
- أولاً تأثير الكتاب كان ساحقاً، خصوصاً أن مقدمة الكتاب كانت بقلم الشيخ عبدالعزيز بن باز (رحمه الله)، فكان تأثيره ساحقاً بحيث إن معظم الشباب الذين هم متعلقون بالحداثة أخذوا يتراجعون ويصمتون لذا رأيت من واجبي أن أرد على هذا مهما كلفني الأمر. اتصلت برؤساء التحرير جميعهم رفضوا نشره، لأن كاتب مقدمته الشيخ عبدالعزيز بن باز، حينها وقعت في حيرة أنا أريد أن يقرأ في الداخل وليس بالخارج، جريدة الوطن الكويتية كانت تدخل إلى المملكة، أرسلته للوطن. المقال عنوانه الأساسي كان (الأواني المستطرقة) لماذا أنا أسميته بهذا العنوان، لأن كتاب القرني مأخوذ من أشرطة متفرقة، وكأنها شريط واحد، اطلعت على هذه الأشرطة، لذا شبهت القرني وهؤلاء بالأواني المستطرقة، لكن أحمد الربعي (رحمه الله) غير العنوان إلى قراءة ساخنة في كتاب بارد.
* لماذا غير أحمد الربعي العنوان؟
- لا أدري ماهي وجهة نظره، أعتقد أن (الأواني المستطرقة) كانت صعبة وفيها حدة، ولكنها كانت أجمل من قراءة ساخنة في كتاب بارد، دخلت الوطن الكويتية إلى المملكة ونشر المقال على ثلاث حلقات، واطمأن بعد ذلك شباب الحداثة ورجعت لهم الروح.
* سؤالي السابق كان لأجل إعطاء القارئ صورة عن الأجواء التي عاشها محمد العلي قبل ما يقارب عشرين عاماً، كنت في حينها من أقوى المدافعين عن الحداثة بروح عالية، هل لا زالت تلك الروح لديك الآن، أي لو أتى اليوم كتاب آخر هل ستقف ضده كما وقفت ضد كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام)؟
- بالتأكيد أنا أجده واجبي، لو أتى كتاب سأقف ضده بلا شك.
* بماذا تفضل أن تعرف به كمثقف؟
- أفضل أن أعرف بأني جاهدت في تغيير الفكر الاجتماعي وهذا يكفي.