يحدث أحيانًا أن يطلب منك أحد الإعلاميين- في أدبٍ جمّ- مقالاً أو حوارًا، فتستجيب بكل حبّ وتفاعل. لتُفاجأ بأن جهدك قد قُلّص، أو لم يُنشر، وربما اختفى طالب تلك المادة نفسه! وحينئذٍ تكون في حيرة من أمرك، بين: توقّي أن تُلدغ من جحر إعلاميّ مرّتين، فتكفّ عن المشاركة في موضوعٍ إلاّ بحدّ أدنى من ضمان سلامتك وسلامة ما تكتب، أو أن تُجازف، (وأنت وحظّك)!
ولئن كان هذا الأمر لا ينفصل عن أخلاقيّات عامّة في التعامل الاجتاعي، ما زالت صادمة لمن يقاربها فيقارنها بأخلاقيّات التعامل في مجتمعات أخرى غربيّة أو شرقيّة، فإنه- مع الأسف- ينقل إلينا كذلك صورة مخجلة عن الأخلاقيّات الثقافيّة العربيّة، وعن المصداقيّة الإعلاميّة لدى بعض المنتسبين إلى هذا الميدان، وهم ليسوا بلا تأهيل مهنيّ فحسب، ولكن أيضًا بلا أمانة ولا احترام.
وفي ما يلي حوار استضافني إليه أحدهم، حول (الرواية السعودية الجديدة)، فاختفى الجمل بما حمل، فلا رجع ولا رجع الحوار!
* في البدء ما هي رؤيتكم الشخصية للطفرة التي تمرّ بها الرواية السعودية حاليًّا، وهل أنتم معها أم ترونها مجرد أمر عارض (موضة)، لظروف معيّنة، لا تلبث أن تتراجع ؟!
- إنْ صحّ مفهوم (الطَّفرة) هنا، فإني آمل أن لا تكون طفرة عددٍ، بل طفرة نوع. وحتمًا أنا معها إنْ كانت تمثّل حراكًا نوعيًّا. والسعوديّة اليوم تشهد تحوّلات اجتماعيّة وثقافيّة، وتعدّدًا في الرؤى والأفكار والتوجّهات، تمخّضت عن الانتقال من طور المجتمع القَبَليّ والمحلّي الساكن بعاداته ومألوف تقاليده إلى المجتمع المدنيّ المتفاعل داخليًّا وخارجيًّا. وفي مثل هذا الجوّ لا بُدّ أن تزدهر الرواية، وتُؤتي أُكلها. قطعًا ليس الاحتفاء بالرواية في السعوديّة أمرًا عارضًا، بل هو واقع حيّ يتحوّل إلى واقع متخيّل. وتطوّره مرهونٌ بمزيد من النضج الاجتماعيّ والأدبيّ.
* هل ترون أن هذه الطفرة، أو التركيز على الرواية السعودية حاليًّا كتابةً ونقدًا، قد واكبه نوع من الحراك الثقافي، أو نتج/ أثَّر بشكل أو بآخر على طبيعة تلقّي القارئ للأدب في السعودية؟ بمعنى آخر، في مصر (وأعتقد في العالم العربي كلّه) أصبحت الرواية السعودية محط الأنظار، لاسيما بعد (بنات الرياض)، لدرجة أن البعض يؤرخ للرواية السعودية بما قبل وما بعد (بنات الرياض)، على الرغم من وجود روايات كثيرة أثارت الجدل قبلها، لم تحظ باهتمام إعلامي مماثل.
- في تقديري أن وجود الرواية، من حيث هو، ليس إلاّ نتاج حراكٍ ثقافيّ. فالعمليّة جدليّة بين الواقع الثقافي والواقع الأدبي. ولولا الحراك الثقافي لما نشأ النصّ، ولما تلقّاه القراء بتفاعل، ولما حظي بسوق. ثم إن النتاج الأدبي يصبح مع الزمن عامل جذب واستقطاب للقرّاء، مسهمًا في تطوير الذائقة، ورسم آليّات جديدة للتلقّي. أمّا ما يتعلّق تحديدًا برواية (بنات الرياض)، للكاتبة رجاء الصانع، فسؤال آخر. العمل في ذاته، من حيث هو، نصّ أدبيّ جيّد، وليس الأجود، فيه هفوات، وليس الأسوأ. ما أثاره من ضجّة هو بسبب مضامينه الاجتماعيّة. والحُكم على المضامين ليس نقدًا أدبيًّا، بل هو نقد أخلاقيّ. وفي الوقتِ نفسه، فإن اتّكاء كاتبٍ ما على إثارة الزوابع الاجتماعيّة ليس ما يضمن للنصّ جودته الأدبيّة. لذا، فإن رواية (بنات الرياض) ربما كشفتْ بعض المسكوت عنه، وربما بالغت أحيانًا في استنطاق مسكوت عنه ما، واقعيّ أو افتراضيّ، فلم يكن- في المقابل- ليسكت المسكوتُ عنه عن (بنات الرياض)؛ فإذا به يصبح عملاً يخوض فيه الخائضون لأسباب عدّة، أقلّها حضورًا النقد الروائي، البعيد عن الحسابات الأخرى، ثقافيّةً واجتماعيّة. إن أهميّة (بنات الرياض) هي أهميّة ثقافيّة أكثر منها أدبيّة أو روائيّة.
* من وجهة نظرك مَن مِن الروائيين (الشباب الجدد) يمكن عدّهم علامات بارزة في الرواية السعودية، وعلى من يمكنك أن تراهن في الكتابة الجديدة، ومَن منهم ترى أن أعمالهم مجرد تجارب، وهل في هذه الروايات ما فَشِل فعلاً؟! وإلى أيّ مدى كان أثر روّاد الرواية السعوديّين القدامى والمعاصرين بارزًا عندهم؟
- لقد أسهمتُ بالدراسة النقديّة لأعمال عدد من الكُتاب السعوديين والكاتبات، كأحمد أبي دهمان؛ محمّد حسن علوان؛ أميرة القحطاني؛ علي الدميني؛ زينب حفني، وغير هؤلاء، وما زلت. وخرجتُ بأطروحات كانت محلّ جدل، من قبيل كتابتي حول ما أسميته (القصيدة-الرواية)، حيث سجّلت أن كثيرًا من نتاجنا الروائي في السعوديّة هو وريث الشعريّة الموغلة في عراقتها في الجزيرة العربية، بوصف الشِّعر فنّها الأحبّ والأوّل، ومن ثمّ فقد لحظتُ امّحاء هويّة بعض تلك الأعمال الروائيّة في شعريّتها، ما يسوّغ أن يُتّخذَ لها مصطلح جنسيّ جديد، يلائم طبيعتها، هو: (القصيدة-الرواية). غير أن تجاربنا الروائيّة في السعوديّة بصفة عامّة ما تزال محض فورات متقطّعة. ليس هناك رصيد كافٍ، ولا استمراريّة تصاعديّة، لنتحدث هنا عن قدامى ومعاصرين، وشيب وشُبّان، وعلامات واتجاهات! هي تجارب من الصعوبة بمكان الحكم عليها كسجلّ روائيّ له تاريخه، لا على مستوى الروائيين أفرادًا، ولا على مستوى السياق العام. تجارب تُخفق تارة وتنجح أخرى، ولدى الكاتب نفسه أحيانًا. ما يبدو طريفًا ومزعجًا في الأمر أن كُلّ الكُتّاب والصحفيين والشعراء والدّعاة الدينيّين والسياسيّين- والكُلّ- صاروا بين عشيّة وضحاها روائيّين، أو راودهم هوس الرواية، وتقمّصتهم شيطنة السَّرد. ويُلحظ وراء هذا عاملان رئيسان: هواجس اجتماعيّة، تجعل بعضهم يُقحم نفسه في هذا الميدان دون موهبة في كثير من الحالات، بهدف تسويق أفكارٍ معيّنة، والعامل الآخر: البحث عن بُقَع ضوء في خضمّ التنافس الإعلاميّ المحموم اليوم. ويظلّ السَّرد مضمارًا واسعًا، لكلٍّ أن يدلي بدوله فيه، فما من أحدٍ إلاّ وله حكاية، وما من إنسان إلا ويجد ما يرويه في وقتٍ من الأوقات. ولكن ما سيبقى من ذلك كلّه ليس إلا تلك الأعمال التي تتمخّض عن أصالة موهبة، وتتبلور عن حس أدبيّ حقيقي، وتتأتّى من خلال تمكّنٍ في الأدوات اللغويّة والفنّيّة، وأمّا زَبَد ما يحدث الآن فسيذهب جفاءً. إن الرواية عمل أدبي ذو أصول، وليست مطيّة أفكار لكل من حمل قلمًا وكانت في رأسه فكرة!
* هناك من يتهم دور النشر اللبنانيّة بالتحريض على الكتابة في الرواية من الكتاب السعوديين، لاسيما الروايات التي تجنح للكشف عن علاقات جنسية، أو شذوذ، أو الطعن في رجال الدِّين، هل ترى ذلك صحيحًا؟ أم أنها مجرد شائعات؟!
- الجنس والسياسة والدِّين ثلاثيّ يثير التحرشُ به ردود أفعال متباينة في كل العالم، وفي عالمنا العربي بخاصّة، وذلك نتيجة مكبوتاته المتراكمة. وهي ردود أفعال يبحث عنها كذلك بعض من يبحث عن المال والصِّيت. وبعيدًا عن تعميم حُكْم على دور نشر معيّنة، فلقد بات لافتًا تخصّص بعض دور النشر في عناوين معيّنة، وموضوعات خاصّة، وأسماء معلومة. وعلينا أن لا ننسى أن النشر تجارة أيضًا، والبحث عن الإثارة- ومن ثم المردود المادي من نشر الكِتاب- أضحى يُملي على تلك الدور ما تنشر وما لا تنشر. هذا فضلاً عن طائفة أخرى من المنشورات المموّلة من قِبَل كاتبيها. لذلك أجدني أتفق مع السؤال وأختلف. أتفق من حيث إن رؤية كثير من دور النشر هي تجاريّة بحتة، لا تحمل رسالة ولا فكرًا ولا توازنًا في طبيعة منشوراتها. وأختلف في الميل إلى تصنيف القضايا الدينيّة أو الاجتماعيّة على أنها (تابوهات)، محرّمة الكتابة فيها، وعالم مغلق، الخوض فيه يُعدّ رجسًا من عمل الشيطان. فأمرنا مع الأسف- وتلك ظاهرة ثقافية عربيّة مزمنة- ما يزال بين فرط وتفريط:
تَقاذَفُ أَمواجُ البِلادِ بِأَهلِها،
فَلا الناسُ في قَعرٍ، وَلا الأَمرُ في شاطي!
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151»
-الرياض aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net