هذا مثال على إحدى صيغتي التعجب المشهورتين (ما أفعله وأفعل به). وهو مثال حيّر النحويين في تفسيره وإعرابه، والمشكلة الأولى في هذا التركيب أنه أمر للمخاطب بأن يفعل؛ ولكن هذا الفعل غير مراد، والآخرة أن هذا الفعل معبر عن المجرور بحرف الجر لا الفاعل، ومن أجل هذه الحيرة نجد لهم طريقين مشهورين في إعرابه، أما أحدهما ففيه أن أصل التركيب هو: (أحسنَ زيد) بمعنى صار زيد ذا حسن، و(زيد) على هذا فاعل؛ ثم يرون أنّ الفعل حوّل إلى الأمر لتحقيق الإنشائية اللائقة بالتعجب، ولكن فعل الأمر لا يسند إلى (زيد) فزادوا الباء ليتعلق بالفعل فضل تعلق، فالفعل بهذا التصور ماض جاء على صورة الأمر والباء زائدة وما بعدها فاعل وفاقًا لأصله (أحسن زيد). وأما الإعراب الآخر فيرى الفعل أمرًا ابتداءً، ولم يحول عن الماضي، فالفاعل هو ضمير المخاطب المستتر وجوبًا، وأما (بزيد) فمتعلقان بالفعل، بمعنى أن زيدًا حسب هذا الإعراب مفعول به لا فاعلاً، واختلف في المخاطب فقيل المتحدث إليه والمعنى أيها المخاطب اجعل الحسن بزيد أي اعتقده، وقيل إن المخاطب المقصود هو المصدر الذي صيغ منه الفعل وهو في مثالنا (الحسن) وكأن الخطاب هكذا: يا حُسن، أحسن بزيد، أي لازمه. ولا شك أنّ هذا الكلام كله معبر عن الحيرة في التفسير والإعراب، وليس بمقنع لأحد.
ولقد طال وقوفي عند هذا التعبير وتحيرت في أمره كغيري، ولكني أقول فيه ما لعله أقل غموضًا من السابق، وهو أنّ من المعروف أن البناء (أفعلَ) قد يستعمل للدلالة على وجود المفعول مستحقًا للفعل، قال سيبويه: (فأما أحمدته فتقول وجدته مستحقًا للحمد مني، فإنما تريد أنك استبنته محمودًا، كما أن أقطع النخل استحق القطع، وبذلك استبنت أنه استحق الحمد، كما تبين لك النخل وغيره فكذلك استبنته فيه) (الكتاب، 4: 60)، ولعلنا انطلاقًا من هذا المعنى نقول إن فعل الأمر (أحسنْ) المراد به أن يتبين الحسن وأن ينظر كيف استحق المتحدَّث عنه ذلك الحسن، وقد يقال هنا لم جاء الفعل لازمًا غير متعد إلى المفعول فيقال (أحسن زيدًا)؟ والجواب أن ذلك يؤدي إلى اللبس ويفوت فرصة التعجب بعد ذلك، وإنما جاء غير متعد إلى المفعول لأن المراد مطلق الحدث وهو في المثال مطلق استبانة الحسن. ولما كان هذا الحسن خاصًّا بزيد ألصقته به فقلت (بزيد)، وهكذا تقول أكرم بمحمد أي تبين الكرم واخصصه بمحمد. ولو تفطنا قليلاً لوجدنا أن بين قولنا (ما أحسن زيدًا) وقولنا (أحسن بزيد) فرقًا إذ نسوق الأولى معبرين عن إعجابنا بزيد وأما الآخرة فنسوقها في معرض مدح زيد حين يذكر اسمه، فأنت تقول لصاحبك: لقيت اليوم زيدًا، فيقول لك: أنعم به وأكرم، وحين أراد كعب المدح قال:
أكرم بها خلةً لو أنها صدقت موعودها أو لو أن النصح مقبول
فالتركيب في أصله فعل أمر فاعله ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت أيها المخاطب والباء للإلصاق والاسم بعدها مجرور بها وهما متعلقان بفعل الأمر وقد خرج فعل الأمر من الطلب إلى التعجب. وما قلته ليس بقول جازم منتهى منه بل هو مطروح للتداول فإن أفاد قبل وإلا بات مطّرحًا.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7987» ثم أرسلها إلى الكود 82244