تنادى عدد من المثقفين والمعنيين بالهوية الثقافية ودور الثقافة في حياة المجتمعات الإنسانية لقراءة واقع الثقافة العربية منطلقين من عدة حيثيات ملموسة على أرض الواقع الثقافي.
هذه الشخصيات الثقافية التي نظرت للحاضر بعين الوعي المستقبلية اتخذت قرارا بإنشاء صندوق اختيرت سويسرا مقرا له واختيرت مدينة عمان الأردنية موقعا لتنظيم العلاقة الثقافية بين المثقفين والصندوق. وقراءة الواقع الثقافي ينطلق من دلالات حقيقية لعبت الصحافة الثقافية دورا في كشفها. كنا نعتقد أحيانا أن ما يكتب في الصفحات الثقافة والملاحق الثقافية وحتى في مواقع الإنترنت وفي البرامج الثقافية المرئية والمسموعة، بأن لا أحد يقرأ ولا أحد يستمع ولا أحد يشاهد. ولكن تأسيس هذا اللقاء أكد دور الصوت الإعلامي للتنبيه لما يجري لعالم الثقافة العربية في التأثير على صانعي القرار أو على المبادرين.
يقول تقرير صندوق دعم الثقافة: (على مدى العقدين الماضيين شهد العالم العربي تراجعا بطيئا في إحكام الدولة سيطرتها الكاملة على الأنشطة الثقافية. فقد أدى إدخال سياسات التحرر الاقتصادي في عدد من البلدان وظهور بعض من قنوات التلفزة الفضائية شبه المستقلة إلى خلق مناخ من الحرية النسبية للتعبير الثقافي. وهذا الانفتاح أتاح نوعا من النهضة الثقافية العربية تمثلت في تأسيس مسارح مستقلة وفرق للفنون الأدائية والموسيقية ودور النشر ومعارض ومنظمات ثقافية ومراكز أبحاث. تشارك جميعها الرغبة في خوض عالم التجريب والابتكار والنأي بنفسها عن قيود المؤسسات الرسمية مع ما تم إفرازه من تقدم على الجبهة الثقافية، نشهد تراجعا في موارد التمويل الحكومي للثقافة رافقه تفاقم في الطابع التجاري للبيئة الثقافية وزيادة في القيود السياسية والاجتماعية في أغلب بلدان المنطقة العربية. لهذا تحدث إمكانية الحصول على التمويل مهمة صعبة على الفنانين والمنظمات الثقافية المستقلة. فعلى الرغم من الزيادة المطردة في عدد وحجم هؤلاء الفنانين وتلك المنظمات إلا أنهم محرومون في معظم الأحيان من موارد التمويل العامة. وباستثناء عدد قليل من المؤسسات المانحة في منطقة الخليج العربي التي تعنى بالثقافة، يتوجه الدعم الخيري عامة وبشكل رئيس إلى حل المشكلات الاجتماعية الطارئة المرتبطة بالفقر).
إن قراءة منتبهة إلى هذا المقطع من دراسة الواقع العربي يؤكد لنا مخاوفنا السابقة التي كنا نتناولها باستمرار والمتمثلة في انحسار دور الدولة في (دعم - مؤكدا تعبير دعم وليس إنتاج) الثقافة وظهور مؤسسات الثقافة المستقلة المتمثلة في رعاية مؤسسات المجتمع المدني للثقافة ودور المؤسسات المانحة لدعم الثقافة. وأخيرا الطابع التجاري للمؤسسات الثقافية المستقلة. حيث كنا نطالب باستمرار أن تكون الدولة داعمة وليست منتجة للثقافة لكن الكثير من حكومات تلك الدول تريد أن تكون هي المنتجة للثقافة لأنها تخاف من استقلاليتها ومن فرص وهوامش حرية التعبير. ويوما قال غوبلز وزير ثقافة هتلر كلمته الشهيرة: (عندما أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي).
لقد كان دور حكومات ومؤسسات الدول العربية دورا سلبيا في أغلبه على الثقافة العربية. فالنظرة الشمولية التي سادت طبيعة بعض الأنظمة العربية حكمت الثقافة بنظرتها الشمولية هذه وقادت إلى نزوات دكتاتورية في تكريس الثقافة لأيديولوجيا الحزب والعشيرة والفرد. وسارت الثقافة مسرى طرحته البلدان الشيوعية والاشتراكية في مواجهة الفكر الرأسمالي الحر. فأنتجت هذه البلدان أكداسا من الأفلام والورق المطبوع تحت اسم الرواية والقصة والبحث في قيم الجمال الشمولية، فتكونت بسبب هذا النهج مجتمعات نحصد اليوم الثمرة المرة والدامية والمدمرة المتمثلة في السلوك اللا إنساني ولا أقول حتى الحيواني لأنه أخف وطأة من سلوك الإنسان في داخل مجتمعه (العراق، الجزائر، أفغانستان، الصومال..) أمثلة للتدهور الاجتماعي والحضاري. وهناك بلدان آتية على الطريق وهي تعاني من ذات التدهور ولكن داخل أسيجة وغرف سرية لا بد أن تظهر للعيان يوما كما حصل في العراق.
وفي تهشيم هذا النهج وبوسائل مختلفة كلفت الشعوب حيوات مستقبلية، بدأت تظهر الثقافة المستقلة بأشكال مختلفة. ويشخص المجتمعون لتأسيس صندوق دعم الثقافة بأن الثقافة المستقلة اتسمت حينا وأحيانا أخرى بالطابع التجاري.
لو سألنا أصحاب المؤسسات الثقافية المستقلة عن سبب النهج التجاري لها لجاءنا الجواب منطقيا، وكيف يمكن الديمومة؟ فالتجارة هي اقتصاد الثقافة المستقلة وبدونها تخسر المؤسسة ويصبح وجودها عدما وصفرا. فالنهج التجاري هو سكة المشي لأن هذه المؤسسات تمول نفسها بنفسها. ولكي نجيب عن هذا المنطق فإن رحمة تحرر الثقافة من أسر الدولة وبشكل خاص ذات النهج الشمولي يقود بالضرورة الاقتصادية والتجارية إلى تخريب جوهر الثقافة بطبعه بالطابع التجاري. هنا يأتي دور المؤسسات الدولية الداعمة ودورها في عملية التوازن بين ثقافة الدولة والثقافة التجارية.
فمن هي هذه المؤسسات ولماذا تدعم ثقافتنا؟
شكراً لها مهما كان السبب المستقبلي المرسوم، هذا إذا كان ثمة هدف مستقبلي غير ثقافي؟!
لا نريد الغوص في بحر الشكوك حتى لا نؤذي الثقافة. هذه المؤسسات الداعمة لا شك تريد أن تضفي على واقعها الاقتصادي ثمرة إنسانية تتعلق بالثقافة وهو شيء جميل وجميل جدا. فالمؤسسات الداعمة للصندوق هي مؤسسات اقتصادية موجودة اليوم في السويد وفي الدانمارك وفي النروج بشكل أساسي، إضافة إلى مؤسسة فورد في أمريكا، وأضيفت لها مؤسسة الإمارات العربية المتحدة. وهو أيضاً شيء يدعو للمسرة والفرح الحقيقيين.
ولأن هذه المؤسسات الاقتصادية الغربية تقدم الدعم للثقافة فإن تلك المبالغ سوف تعفى من ضريبة الدخل. فالمانح في حقيقة الأمر لا يدفع من صندوقه بل انه يدفع هذا الدعم من صندوق ضريبة الدخل. فهو لن يخسر بالملموس الاقتصادي وإنما الخاسر هو مديريات ضريبة الدخل، وهي تقبل بذلك لكي تشجع المؤسسات الاقتصادية لتخصص جانب من وارداتها للثقافة الإنسانية. هنا يأتي السؤال المحير دائما، لماذا لا ينهج الموسرون العرب والشركات العربية المتأسسة في الغرب للاستفادة من هذا الهامش الضريبي في تقديم الدعم للثقافة العربية المستقلة لكي تتسع فرصة تعميق الثقافة الحرة في كشف الواقع الاجتماعي. ولماذا لا يتأسس نظام ضريبي في المنطقة العربية يشجع المانحين على تقديم الأموال للثقافة العربية على غرار النظام الضريبي في الغرب الذي يحسب المبالغ الداعمة للصناديق الثقافية والاجتماعية حسابا معفيا من ضريبة الدخل والربح.
إن تحقيق التكامل الثقافي لو يتحقق في شكل قوانين وأنظمة اقتصادية وتأسيس لجان واعية على غرار اللجنة التي بادرت لتأسيس صندوق دعم الثقافة والفنون في المنطقة العربية لكنا خلصنا الثقافة العربية من الشرط التجاري الذي يتعكز عليها أصحاب المؤسسات الثقافية العربية، وذلك واضح أكثر في الثقافة المرئية عبر القنوات الفضائية في السماء العربية وسماء الشرق الأوسط. لأن الثقافة المرئية والتلفزة في الوقت الحاضر ولمدى غير قصير ستبقى هي الثقافة الأكثر إرهاقا اقتصاديا في تحقيقها لما تنطوي عليه من وسائل الإنتاج والبث المتعلق بتقنية عملاقة ممثلة في الأقمار الاصطناعية ومقدمي البرامج ومعديها وأدوات تصويرها وتوليفها فنيا.
قد ينجز لنا مستقبل التقنية فرصا أسهل وطرقا أقصر للوصول إلى المتلقي وذلك عبر تطوير شبكة الإنترنت والسيرفر ما يلغي أهمية الأقمار الاصطناعية في إيصال الصورة وحدها. والمعارض الدولية تنبئ بمثل هذا الطريق قريبا. ولكن نحن الآن أمام واقع ثقافي يغلب عليه الطابع التجاري، وهو ما أثار مخاوف أصحاب فكرة الصندوق وهم شخصيات ثقافية واجتماعية مرموقة اخذوا على عاتقهم هذا التأسيس غير السهل والمرهون اليوم بمدى وعي المؤسسات الاقتصادية العربية وأيضا حكومات المنطقة القادرين على مثل هذا الدعم الذي ينبغي أن لا يكون مشروطا لأن شرطه الضمني هو إنعاش الثقافة المستقلة المتسمة بحرية التعبير الواعية وهو شرط لا يفوقه أي شرط من شروط الدعاية المباشرة التي سلبتنا فرصة الإبحار في عالم الثقافة الذي بسجنه وأسره في الإيديولوجيات الخائبة قد طبع مجتمعاتنا العربية بطابع الدفاع المريض الذي يقود الآن إلى خراب البنية الاجتماعية والاقتصادية بسبب غياب الهوية الإنسانية المتمثلة في الثقافة وفي المقدمة منها ثقافة الصورة المتحركة والصوت الأكثر تأثيرا في الذات الإنسانية على المستويين الفيزيائي والسيكولوجي.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244
- هولندا sununu@wanadoo.nl