من عادتي إذا ما أعجبت بعمل أدبي أن أعيش هذا الإعجاب وأتمتع به. حصل لي هذا مع أعمال كثيرة توقفت عندها خلال أربعة عقود من القراءة والكتابة، وهي أعمال تعود إلى كتّاب عالميين وعرب، مخضرمين وشبان. جودة الإبداع هي المحرك لهذا الشعور، والجودة هنا لها مقاساتها السرية ورجعها النديّ، بحيث لا يستطيع حتى القارئ الكاتب أن يفصح عنها بشكل كامل؛ لأنها (إحساس) أولاً وآخراً.
وبين الروايات العربية الجديدة التي قرأتها وقبل ذلك قرأت عنها رواية (عين الهرّ) للروائية والأستاذة الجامعية د. شهلا العجيلي، وهي ابنة الرقة السورية، تلك المدينة الفراتية الباذخة التي أنجبت عبدالسلام العجيلي الروائي والطبيب والوزير والنائب الذي كان الاحتفاء به السبب لتلك الزيارة التي منحتني أجمل هدية تمثلت في الوقوف على ضفة الفرات لأخاطب مياهه المنحدرة إلى جنوب العراق، وأقول لها: سلّمي لي على الذين هناك، سلمي على كل نخلة تسقينها، وعلى كل فتى يشق مجراك بذراعه التي حرقتها شمس العراق.
نعمن هل لابد من هذا كمدخل إلى عالم هذه الرواية التي قرأتها قبل أشهر، ولم أعرف كيف أبدأ حديثي عنها؟
لكن هناك من وضعني أمام الرواية من جديد وهو حديث الكاتبة نفسها أو شهادتها التي نشرتها في ملحق (الثقافية) بجريدة الجزيرة السعودية ليوم 23-6- 2008 وتوقفت عند المعلومة - وقد حيرتني قبل هذا - التي تذكر فيها أنها أمضت سنتين للتعرف على عالم الحجر النادر والعاملين فيه. وكل ما يتعلق بهذه المسألة.
والمعلومة هذه تشكل مفتاحاً تتأكد بعده أن كتابة رواية لا تتم بسهولة، بل تحتاج إلى مجهود كبير في البحث وجمع المعلومات، وهذه مسألة مرت بكل الروائيين المحبين لعملهم، ونتذكر مثالاً قريباً حيث أصدر الروائي عبدالرحمن منيف بعض المعلومات التي جمعها لروايته (أرض السواد) ولم يوظفها فيها، أصدرها في كتاب مستقل.
ويمكن أن أستطرد وأورد أمثلة أخرى، ولكن ما يهمني هنا هو أن د. شهلا العجيلي قد بحثت وتابعت وربما وجدت لذة كبيرة في اكتشاف هذا العالم المجهول عالم الحجر الكريم، هكذا يسمى، وكيف يتحول إلى تحف نادرة لزينة نساء الدنيا؟
ورغم أنها أمضت عامين في البحث إلا أن الرواية ليست كبيرة الحجم بل من (155) صفحة فقط من القطع المتوسط، وإذا كانت الكاتبة قد جاءت الرواية من النقد أو البحث فإن كتاباً نقدياً بهذا الحجم أو أكبر منه لا يتطلب منها كل هذا الزمن الطويل. ولكن الإبداع له متطلباته وأدواته الأخرى التي قد تحتاج إلى ما يزيد على عامين.
أقول أيضاً إنني كلما قرت عملاً سردياً لباحث أكاديمي أقرأه وأنا أعيش هاجس الخشية على هذا العمل من أن تصادره منهجية الباحث واشتراطاته المسبقة التي تشكل بعض أدواته المعرفية عند التدريس في الجامعة، ولديّ أمثلة عن جامعيين مرموقين أخفقوا في كتابة أعمال أدبية؛ إذ جاءت كأنها تطبيقات لمدارس نقدية، لكن د. شهلا بددت هذا بلغتها الشعرية ذات الغنائية السمحة حتى أن هذه الغنائية تصادرنا بحيث لا نراجع ما كتبته، ونتقبله على أساس كونه حقائق تصعب مراجعتها. ونسأل هنا هل (أن أسوأ حب هو الذي يباغتك متأخراً)؟
هذه هي الجملة الأولى في الرواية التي تسجلها الكاتبة بيقينيّة؟ ولكن هل تناسب صفة (أسوأ) هذا النوع من الحب؟ وهل هناك درجات له؟ وهنا لابد من الحب النقيض (أفضل) فهل الأمر هكذا؟ وما (الأفضل) هنا؟! لكننا لا نتوقف لنتساءل بل نواصل القراءة؛ ولذا أقول بشيء من الجزم: إن أهم ما باغتني في هذه الرواية الروح اللائية، الحالمة، العاقلة جداً (غالباً) والغنائية الغائمة بحيث تضعني في فضاء شعري كأن الرواية فيه قصيدة طويلة.
وإذا كانت هناك شخصيتان نسائيتان أولاهما (الراوية) وثانيهما (أيوبة) فإن هاتين الشخصيتين تناقض أحدهما الأخرى، فالرواية تكاد نرى فيها ما يقرب من البوح السيري للكاتبة - رغم أنني لا أفضل هذا النوع من الآراء التحقيقية ومع هذا أقولها. أما أيوبة فهي فتاة بسيطة يسيّرها قدر غامض بحيث تظل أسيرة منسية فهي أيوبة - مؤنث أيوب - حقاً، وربما كان صبرها أشدّ حرقة وعذاباً.
تبدو لي الفصول القصيرة الأولى من الرواية التي تحمل أرقاماً للأسماء وكأنها تمهيد لأرض الغرس، فبعد (أسوأ حب)، جاء القلب (لكثرة تقلبه سمي قلباً). كما أن الراوية تردف هذا بقولها: (كم يدهشني أولئك الذين يحبون مرة واحدة وإلى الأبد)، هل حقاً هناك بشر من هذا النوع ما زال لهم وجود في عالمنا؟ سؤال نردده نحن بعد هذا الرأي ونحن في زمن حماقات المشاعر وإغراءات اليومي في الحياة، وتسليع كل شيء حتى المشاعر.
لكن (الراوية) تقول لمن تهوى؛ لرجلها: (سأعمل على التشاغل عنك بالآخرين، ريثما يتكاتف حضورك في حياتي، بالشكل الذي ترهص به نفسي).
أما الآخرون الذين ستتشاغل عنه بهم فيتمكنون في أيوبة تقول له: (سأنشغل عنك بها، هي التي سأمنحها الاسم ذاته، الاسم الذي أختاره، لكل ما يخرج من تحت قلمي: لكل قصة أكتبها أسميها أيوبة).
ستكون أيوبة في هذه الحال قناعاً للهزيمة والخذلان وسكنى الهامش، قناع الراوية. (وللحديث صلة)