إن التغيرات المفاجئة التي حدثت للفن في عصرنا قد خلقت للمشاهد الكثير من التساؤلات حول إدراك الاختلافات والتشابهات في مختلف الطرق التي رأى الفنان بها العالم وكيفية التعبير عنه ووضعت حاجزاً شبيهاً بالجدار المعنوي المحسوس، إذ إن الإبداع الفني وما ينتج عنه من تحليل الأعمال الفنية يتطلب شيئاً من المعارف حول الوضع الاجتماعي والسياقي والفكر السائد في العصر كظروف صاحبت عملية إبداع العمل الفني غير أننا عندما نتناول منتجات الفنون المعاصرة غالباً ما نختبرها خارج نطاق ثقافة العصر رغم أن الحاضر هو الذي نستطيع اختباره ومعاينته وليس الماضي، فيجب علينا ألا ننسى الظروف التي تمر بنا وجميع المتغيرات التي لها الدور الأجل في هذا الانقلاب الذي شمل كُلَّ ما يحيط بنا وأثرها ابتداءً بالإنسان نفسه وبوعيه الداخلي والمؤثرات الخارجية عليه لذلك كانت هنالك الكثير من التساؤلات حول مسؤولية الوعي بكل المستجدات والمتغيرات والتصورات والمعتقدات والرؤى التي تُعيِّنُ موقف الإنسان من الحياة وتُحَدِّدُ سلوكه.
إن داخل كل منا يوجد عالم ممتد من الأفكار والمشاعر التي تحدد حركاتها الكيفية عندها نرى ونشعر بالعالم الخارجي وبينما قد لا يجلب لنا هذا العالم الداخلي من الأفكار والمشاعر بشكل مباشرة ما نراه، فإنه يؤثر بعمق على الكيفية التي نرى بها عالم العلاقات والأحداث الخاص بنا.. لذلك نحن نرى ما هو خارجي لكننا نشعر بما هو داخلي، أحد الأمثلة البسيطة على كيفية حدوثها هو الوقت الذي تكون فيه قلوبنا حزينة فيبدو كل شيء من حولنا مظلماً كئيباً، وإذا كنا بنفسية جميلة نرى كل الكون مشعاً مبتهجاً، ونجد ذلك في قول الشاعر إيليا أبو ماضي: كن جميلاً.. ترَ الوجود جميلاً
إذاً الذات الداخلية هي التي تؤثر على كل ما نراه من حولنا فنجده يتمثل في الأعمال الفنية للفنانين والإسقاطات النفسية فيها تكشف أن كل ما يتأثر به الفنان يختزله فيخرج عندما يلتقي قطار الوعي واللا وعي في حالة الخلق والإبداع أثناء ممارسة الفن في شحنات تعبيرية متغيرة ومختلفة في الكمية ومتنوعة الاتجاه يقول ماكس بيكمان 1884-1950م ( إذا أردت أن تدرك اللا مرئي عليك أن تتغلغل وتخترق الأعماق بقدر استطاعتك نحو المرئي). إن هنالك نوعاً من الفن لا يهدف إلى نقل صورة مماثلة للمرئيات وإنما يوفر لنا رؤية لما يقع خارج حدود العالم المرئي وقد قدَّم علم النفس الحديث فرصة لتأمل المجالات الجديدة من التجربة الفنية، ومن هذا المنطلق يمكن تناول الفن على أنه إبداع لحلم اليقظة، وعلى أساس أن جهد الفنان يتركز في عملية جذب انتباه المتلقي نحو حلمه بطريقته الخاصة التي تظهر فيها بصورة جلية كل الطاقات الكامنة الداخلية له مليئة بالمشاعر المتقدة، أما عمله فهو محاولة تشكيل الأحلام بالوسائط الفنية ونرى أن أفلاطون كان يعتقد بأن (الفنان المبدع يحاكي العمل الذي يبدعه، ويكتسب شيئاً من طبيعته، أو يكسبه (ذلك العمل) شيئاً من طبيعته الخاصة), متمثلاً في الرسم والنحت. إن الفن يحل العديد من المتناقضات في الحياة من خلال الشكل وأحياناً يتيح لنا فرصة من أجل أن نبصر ما يقع خلف الستار المعتم الذي يخفي تلك الفضاءات المجهولة.
وعندما تتصادم هذه المتناقضات والأفكار الداخلية للفنان مع محيط خارجي غير واعٍ يشمل المجتمع باختلاف شرائحه الذي يكون الآخر هو فرداً أساسياً منه تحدث هنا تلك الهوة العميقة والأزمة التي تؤدي إلى نتائج سلبية يمر بها الفنان وشعوره بالغربة وبالوحدة.
فالفنان الذي يرى ضرورة توصيل تجربته إلى الآخرين فهو يبحث دائماً عن سُبل لتحقيق ذلك، من خلال لوحاته، أو تماثيله أو أوراقه المكتوبة أو أصواته المعزوفة، وفي الأحوال العادية يبذل الفنان قصارى جهده من أجل الاتصال بجمهورٍ ما، ليس لأنه يشك في عدم اكتمال تجربته الفنية فقط, ولكن من أجل أسباب أخرى، منها مشاركة الآخرين تجربته التي يراها ذات قيمة.