قلما كان العمال الرئيسيون في المعمل يتغيرون، فهم إلى جانب إحساسهم بأنهم يعملون لدى إنسان ٍ يرعاهم كأولاده تماماً ويوسّع عليهم، كانوا يعتزون بأنهم جزء من مؤسسة صناعية راقية تساهم في تطورهم المهني وأنّ لصاحبها سمعة مضيئة عاطرة ينعكس طيبها عليهم، بالإضافة إلى كونه واحداً من أبرز المناضلين في مقاومة الانتداب الفرنسي والمناداة بالاستقلال. وكان يزيد من اعتزازهم حين يرون العديد من زعماء الكتلة الوطنية الذين يسمعون عنهم، يتقاطرون من وقت لآخر إلى المعمل للتداول همساً مع أبي في شؤون النشاط الوطني وتنظيمه.
لقد انضم هؤلاء العمال إلى معمل أبي وهم فتية، ثم تمرّ السنون ويبلغون مبلغ الرجال وقد اكتملت تجربتهم المهنية وقدراتهم العقلية، فيشعر أبي أنه حان الوقت أن يسأل الواحد منهم فيما إذا كان يرغب في الاستمرار في العمل عنده أم أن في ذهنه طموحا يريد أن يحققه لنفسه. وكان أبي في ذلك يحرص على أن يبدأ هو بمفاتحتهم بأمورهم الحياتية، فيفسّح لهم الكلام، لأنه يعرف أنهم يترددون ويخجلون من أن يكشفوا له ما في صدورهم من أمنيات وأحلام. فكان منهم من يؤثر البقاء حيث هو، أومن يحلم بتأسيس أسرة وعمل صغير خاص به، اومن يتمنى لو يصبح دركياً أوإطفائياً.
وكان هؤلاء جميعاً عندما يستريحون إلى أبي فيما يهمهم يعرفون أنه هو الذي سيحقق ما يتمنون، فهو بعيد المقدرة وذو صداقات كثيرة بين الناس وفي الدوائر الرسمية حيث لا يُردّ له فيها طلب.
ولا يلبث ذات يوم أن يطل في حارتنا من بعيد دركي رشيق، يتهادى ببزته الرسمية ذات اللون الكاكي التي تزينها الأزرار المعدنية البراقة، وحين يزداد اقتراباً يتبيّن الكل أن من هو أمامهم ليس سوى (عادل) الذي كان أبرع عمال المعمل في خفق خلطة النوكا بالفستق.
أما (عزة) ذو الجسم الضخم الذي كان بالإضافة إلى مهارته في تأدية كل ما يسند إليه في المعمل، لا يعجز عن حمل أي وعاء أو صندوق أو كيس مهما ثقل وزنه، فيبدو أنه قد أصبح إطفائياً وغدا بكل ما هو مدور فيه: وجهه الطفولي وساعداه المفتولان، وبزته الفضفاضة المضادة للحريق، وقبعته المعدنية، أشبه ما يكون بجنرال خارج من إحدى لوحات الفنان الكولومبي (فرناندوبوتيرو).
هذا إذا بالنسبة لمن أحبوا أن ينخرطوا في الوظائف الرسمية التي كانت في تلك الأيام تحظى، مهما كانت درجتها، بالمهابة والاعتبار، ولا سيما حيال ذوي البزات الرسمية مثل الشرطي الذي كان يُعرف حينذاك دائماً باسم (الأفندي).
أما أولئك العمال الذين كانوا يؤثرون العمل الحر ويتطلعون إلى تأسيس معمل أوحانوت يتابعون فيه ما تعلموه فقد كان أبي يمدّهم بما يحتاجون إليه من مال أومواد أولية (سكر، لوز، فستق، غلوكوز..) ليبدؤوا خطواتهم الأولى في المشاريع التي حلموا بها.
وهكذا توالدت من معمل أبي معامل وحوانيت كثيرة انتشرت في أرجاء حي (البزورية) وما جاوره من دروب وأزقة. ولا تزال صورة أبي تسكنني وهويمسك بيدي عندما كنت طفلاً بالبنطلون القصير وأسير معه وسط البزورية، هو بقامته الفارعة وطربوشه الأحمر ونظارتيه الطبيتين وأنا أجاهد لأماشي خطواته الواسعة، وكيف كنت أرى أكثر أصحاب الحوانيت الممتدة على جانبي السوق يهرعون نحونا حين يلمحون أبي لتحيته أو لتقبيل يده للتعبير عن عرفانهم بجميله، إلاَّ أنه كان يسارع إلى سحب يده ليحول دون من يهّم بتقبيلها ويتمتم: (استغفر الله يا بني، ارجع لعملك الله يرضى عليك).
وجميل أبي لم يكن مقصوراً على تلك الأجيال التي تخرّجت في معمله وإنما راح يسبغه على كل من كان يقصده، ولا سيما على من كانوا يعملون في مهنته من أصحاب معامل وعمال. فهو حين أنشأ ورأس نقابة تعنى بشؤون هؤلاء جميعاً أطلق عليها اسم (نقابة عمال السكاكر) وليس نقابة أصحاب معامل السكاكر، رغم أنه كان صاحب أكبر وأهم معمل بينها فقد ظل يعتبر نفسه واحداً من العمال، وعزم على أن يكرّس الكثير من جهده ووقته لخدمة هذه المهنة والمشتغلين فيها، ولا سيما خلال سنوات الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، عندما كانت الدولة في تلك الأيام القاسية تتولى هي توزيع السكر، الذي هو المادة الأولى في تلك الصناعة، ب(الكوتا). فكثيرا ما كانت تجحف أو تقصر في توزيع الحصص بصورة عادلة على المعامل، فيكاد بعضها أن يتوقف ويتأذى أصحابها وعمالها وأسرهم جميعا سواء بسواء. وكانت سمعته الوطنية وشخصيته المهيبة تفتحان أمامه أبواب أصدقائه ومعارفه من المسؤولين الذين سرعان ما كانوا يلبّون مطالب نقابته، ويحقون الحق في توزيع حصص السكر على جميع تلك المعامل.