قدّمنا في المساق السابق أن الشِّعر يُعدُّ لسان القبيلة الإعلامي، والمحرّك الأوّل لاستنهاض ما تدعوه بشِيَمها، وعاداتها وتقاليدها، أو (سُلُوم العرب)، كما تُسمّيها. وهي مسلّمات لا مجال للتنازل عنها، مهما طال الزمان، أو تعارضت مع مقتضيات العقل والحياة وضرورات التطوّر. و(سُلُوم العرب) هي الحُجّة التي يراها أصحابها دامغة في الردّ على من ينتقد الثقافة التقليديّة في المجتمعات القَبَليّة. ولقد تُلبس لبوس الدِّين أيضًا، كي تُكسب القداسة المطلقة، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ومن ثمّ تحمي نفسها من هواجس النقد أو دعوات التغيير. بل لقد تُنسب إلى مكارم الأخلاق، التي إنما بُعث الرسول - عليه الصلاة والسلام - ليتمّها في المجتمع العربي، أو تُلتمس لها الحماية تحت ذرائع مخترعة، كالقول إن الإسلام جعل للعُرف مجالاً في التشريع. ولن تعدم عندئذ تخريج مفتين وفقهاء قَبَليّين، يُؤسلمون (السُّلُوم)!
إن ذلك الجهاز المفاهيمي والقِِيمي، الذي غدا فينا كديناصور ثقافيّ هائل، يُعدّ واقعيًّا معوّقًا لأيّ مسعَى نحو بناء مجتمعٍ مدنيّ حديث. وهو إنّما تحمله اللغة، ويشيعه الشِّعر، وتغرسه القوالب العامّيّة، بكُل زخمها المتغلغل بسحريّته المطلقة في نسيج النفوس، المسيطر على العقول، لتحييدها عن موازين العقل والعدل والاعتدال. وهي ثقافة يتشرّبها الطفل منذ نعومة أظفاره، فتبقى تشكّل شخصيّته، وتقرّر سلوكه، وتحكم رؤيته للأشياء. هذا إنْ لم يُصبح هو نفسه عَلَمًا من أعلام الضخّ الإعلامي لتلك الثقافة. ونعرف جيّدًا كثيرًا من أولئك الذين يحملون أعلى الشهادات، وقد يكون أحدهم حامل دكتوراه من جامعة غربيّة في مجال الطبّ أو العلوم البحتة، وهو في الوقت نفسه حامل لواء من تلك الألوية، يُسهم فيما يُسهم فيه غيره من الأميّين وأشباههم، بدعوى أن الشهادات العُليا والمِهَن العلميّة هي مؤشّرات التحضّر ومواكبة العصر. في غفلةٍ عن تلك البنية الثقافيّة العميقة، التي عليها المدار في الرقيّ الاجتماعي، التي لن يُغني عنها طلاء خارجيّ لا يعدو ضرورة ارتزاق. ولذلك لن يكون مستغربًا أن لا يقلّ حملة الشهادات العليا أولئك في الميزان القِيمي والثقافي والحضاري عن سواهم من أبناء تلك الثقافة القَبَليّة، تعصّبًا، وتحيّزًا، وضِيق أُفق، إن لم يفوقوهم في ذلك كُلّه، بما فقدوه من فِطرة أولى، كانت أقرب إلى حكمة الحياة، وأجدر بالتسامح في تعاطيها الاجتماعي، وأشبه بالصِّدق في سلوكها وتعاملها.
وللحِمْل المشبوه على كاهل الشِّعر تاريخ عريق، لا يجهله إلاّ من جهل تاريخ العرب نفسه. فالشِّعر العربيّ في الجاهليّة هو الذي أجّج النعرات القَبَليّة، فمزّق شمل الجزيرة شرّ ممزّق. هو الذي أوقد حرب البسوس بسبب ناقةٍ (مزيونة)، وأشعل حرب داحس والغبراء بسبب فرسي رهان! وما كان يدعو الشِّعر في تلك الحِقبة من حياة العرب إلا لشَرّ مستطير. فلمّا أدرك العرب - في نهايات العصر الجاهلي - خطورة الشِّعر والشعراء على استقرار حياتهم الاجتماعية وسِلْمهم القوميّ، ظهر لديهم فَنّ الخطابة بديلاً أدبيًّا توعويًّا، فازدهرت الخطابة في ذلك الإبّان في أسواق العرب المختلفة، وفي مقدّمتها سوق عكاظ، بما أن الخطابة لغة العقل والحكمة والسِّلْم والحقّ والخير، في مقابل لغة الهوى والعاطفة، والجَمال والجِمال، والحميّة الجاهليّة الشِّعريّة. لتهبط عصرئذٍ قيمة الشاعر لدى العرب، بعد أن كانت من قبل في علّيّين؛ إذ كان النابغة الشِّعري سيّد قومه، والناطق الرسمي باسم قبيلته، إلا أنه قد أثبت للجميع خِفّة عقله، وعدم تورّعه عن إثارة الفتن بين الناس، كما دلّ على وصوليّته، وجشعه وتكسّبه بالشِّعر، بلا كرامة، ولا انتماء، يُنْشِد ويَنْشُد إذا شرب، أو إذا طرب، أو إذا رغب، وكان ذلك دُولة بين الشعراء. فتخلّق هنالك نموذج نابغة بني ذبيان وأضرابه، في التكسّب، ونموذج أعشى منفوحة ومدرسته في التهتّك الأخلاقي.. وهلمّ جرّا. من ثمّ اهتزّت صورة الشاعر ووظيفته لدى عقلاء العرب، ولكن بعد أن طحنتهم الحروب بثفالها، فأنجبت لهم وأتأمت كل أشأم ألأم، كأحمر عاد، وبعد أن شاع الظُّلم والتفاخر به في أحياء العرب، ظُلم نساء أو رجال.
وهكذا نما سوق الخطابة، لغةَ رؤيةٍ وحِلْم ورَويّة وسِلْم، وأقبل صفوة الناس عليها مُعْرِضين عن رَفَث الشِّعر والشعراء. وأضحى لأمثال قسّ بن ساعدة - الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بمكانة مرموقة في سوق عكاظ - قِدح مَعَلَّى في انتشال العرب ممّا جرّه عليهم الشِّعر من ويلات، يُلْقَى البيت فتهبّ قبيلة عن بكرة أبيها، غزوًا أو ثأرًا، تسفك، وتنهب، وتسلب، وتسبي، لتتحول تلك الأفاعيل أبياتًا شِعريّة إثر المعركة، تُمجّد ظُلمها، وسَفَهَ أبطالها وحماقتهم، كي تظلّ من بعد جريرتها الأولى مشعلَ حروبٍ، لا تنطفئ إلا لتصحو على جرائر أخرى. لذا لم يكن مستغربًا أنْ شهدتْ تلك الحقبة الانتقاليّة ظهور الشاعر الخطيب، كعمرو بن كلثوم، ولبيد بن ربيعة، وغيرهما. وفي هذا يورد (الجاحظ)(1) عن (أبي عمرو ابن العلاء) قوله: (كان الشاعر في الجاهليّة يُقدَّم على الخطيب؛ لفرط حاجتهم إلى الشِّعر، الذي يقيّد عليهم مآثرهم، ويُفخّم شأنهم، ويُهوّل على عدوّهم ومَن غزاهم، ويُهيّب من فرسانهم، ويُخوّف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيُراقب شاعرَهم. فلمّا كثُر الشِّعر والشعراء، واتّخذوا الشِّعر مَكْسَبَةً، ورحلوا إلى السُّوقة، وتعرّضوا إلى أعراض الناس، صار الخطيبُ عندهم فوق الشاعر. ولذلك قال الأوّل: (الشِّعر أدنَى مروءة السَّرِيّ، وأسْرَى مروءة الدَّنيّ).
بل لقد اضطرت الأجواءُ تلك الشاعرَ - وبعد أن سحب الخطيب البساط من تحت قدميه - إلى أن يُلبس فنّه جُبّة الحكيم الخطيب، كي يحاول استعادة ثقة المجتمع به، فجعل يُدخل الحكمة والتأمّل العقلاني في شِعره، ويضمّنه الدعوة إلى التفكّر، والصُّلح بين الناس، والوئام بين أحياء العرب، فكانت نشأة مدرسة زهير بن أبي سُلمى جرّاء ذلك.
حتى إذا أظلّ العربَ الإسلام كان له موقفه الصارم من ذلك النوع من الشِّعر والشعراء، الذين غَدَوْا وبالاً على المجتمع العربيّ، ولسانًا لخصوم الإسلام من العرب؛ لأن الإسلام قد جاء بتغيير عاداتهم وتقاليدهم و(سُلُومهم) ومجد آبائهم، ومفاخرهم، وهي مرتكزات لا تنفصل عن وثنيّاتهم ولا عن أدبهم، بما أن الشِّعر ديوان حياة العرب، وعِلمهم الذي لم يُؤتوا عِلمًا خيرًا منه، وهو حامل قِيَمهم الأخلاقيّة والثقافيّة، التي ما كانت لترضَى عن الثورة القِيمية الجذريّة التي أرادها الدِّين الجديد في حياة العرب، ليستبدل بها قِيَمًا جديدة قائمة على دحر القَبَلِيّة إلى أضيق الزوايا القصيّة، لصالح نظريةٍ جديدة في المساواة الإنسانيّة والعدالة الاجتماعيّة. وقد تجلّى ذلك الموقف القرآني من الغواية الشِّعرية العربيّة وأربابها، في الآيات الكريمة، من سورةٍ باسم (الشعراء): (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ{221}، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ{222}، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ{223}، وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ{224}، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ{225}، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ{226}، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ{227}.
بيد أن الشِّعر تراث العرب، وأُسُّ تربيتهم الاجتماعيّة، له في نفوسهم قداسة، وعلى عقولهم سطوة، وفي وجدانهم سِحر، أي سِحر! فما لبث العرب أن عادوا بعد ثورة الإسلام الأولى، وفي العصر الأموي، إلى نهضة جاهليّة جديدة لا تقلّ عنفوانًا عن سابقتها، ومن خلال مدرسة الشِّعر، التي استأنفت بثّ تراثهم العصبي ما قبل الإسلامي - على غرار ما تفعله بعض القنوات الفضائيّة الشعبيّة اليوم! - متجلّيًا ذلك على سبيل النموذج في نقائض جرير والفرزدق والأخطل، التي كانت (شِعر الرَّدّ) في نموذجه القديم، وسباقًا شِعريًّا محمومًا، تُدار فعاليّاته في المربد خاصّة، وفي البصرة عامّة، حيث الحضور القَبَلي القيسيّ اليمانيّ المتناحر، الذي ما كانت لتخمد ثاراته إلا بسيف الحَجّاج، وأحيانًا في الكوفة، حيث مسرح الجماهير الشِّعريّة بحوافزها القَبَليّة والطائفيّة معًا، فقد غدت النقائض ملاهي شعبيّة، لا نظير لإغرائها وجماهيريّتها بين العرب. (ولنا معها مساق آخر، إن شاء الله).
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
1) (1975)، البيان والتبيين، تح. عبد السلام محمّد هارون (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1:241.
- الرياض
aalfaify@yahoo.com