كلما مررت ب (باريس) عابراً أو زائراً أو (مدعواً)، وصافحت عيناي أشجارها وزهورها وتماثيلها ومقاعد حدائقها المتباعدة، وعماراتها الشاهقة والمتوسطة وجاداتها الجميلة الصاخبة.. كانت ذاكرتي تشرق بصور عشاقها الكثر: الذين كان أولهم في العصر الحديث دون شك: ابن مدينة (ليل) وثاني أشهر زعماء فرنسا في القرن العشرين: (شارل ديجول).. العسكري والزعيم السياسي والأديب الفنان المفتون بها وبليلها (المسدل على نوتردام، وجلال المساء في فرساي، وقوس النصر المتألق تحت الشمس، ورايات الظفر الخافقة في أعالي الانفاليد).. والذي كان يستحق فعلاً (نوبل للآداب) بدلاً عن صنوه (ونستون تشرشل) الذي حصل عليها عام 1953 م - ب (مكانته) السياسية لا بإبداعه الأدبي، ف (صورة) طه حسين عبقري المكفوفين والمبصرين على السواء.. وهو يتحسس طريقه من (مارسيليا) إلى (باريس) ف (مونبيلييه) مدينة جامعته، وأرض حبيبته (سوزان).. وهو يجالد دراسته، المستحيلة على المبصرين فضلاً عن المكفوفين.. ثم وهو يعود بصحبة روح (ديكارت) الأدبية ليكتب كتابه الأشهر والأخطر والأجمل: (في الشعر الجاهلي)، ف(صورة) توفيق الحكيم.. فنان الأدب والمسرح والرواية والقصة: ابن (دسوق).. ميلاداً، والإسكندرية.. تربية، والقاهرة.. تألقاً، والذي جاء باريس دارساً ل (القانون).. فأمضى أيامه في (مونمارتر) حي الفنانين. وصباحاته.. بين (اللوفر) ومكتبات شارع (الجراند بولفار)، وأمسياته.. على أبواب المسارح أو في داخلها أن أعانته (فرنكاته) القليلة أو ترفق به بواب المسرح فأدخله مجاناً. وما بينهما.. متسكعاً بين مقاهي (الدوم) و(فليير): يقرأ ويرى ويسمع ويلتهم كل ما تقع عليه عيناه.. فعاد عاشقاً لها وأديباً، بوظيفة (وكيل نيابة) ليكتب روائعه التي بدأها ب(عصفور من الشرق) ف (يوميات نائب في الأرياف).. ف (خالدته): (عودة الروح)، ف(صورة) رائد المنفيين والمشردين على شواطئ البحر الأبيض المتوسط: شاعر الزجل الغنائي العظيم والسليط: (بيرم).. الذي قذفت به أمواج المنافي من ساحل إلى آخر.. حتى استقر به المقام على ساحل (مرسيليا): (شيالاً) لبراميل الجعة في الصباح، وبائعاً لتذاكر الدخول إلى (التياتروهات) في المساء.. ليوفر (ملاليم) حتى يرى باريس وحياتها وفنونها وثقافتها التي تطالعك في كل مكان.. وأي مكان، وعندما استيقظ في أول صباح له فيها.. ورأى الناس يضجون من حوله حياة وحيوية، جلس على أول مقعد ووضع يده تحت خده.. وأخذ يكتب عن الفجر في باريس:
(الفجر نايم وأهلك يا باريس صاحيين
ومنورين الظلام راكبين على ماشيين
بنات بتجري وياما للبنات أشغال
وعيال تروح المدارس في الحقيقة رجال
ورجال لكن على كل الرجال أبطال
ولسه حامد وعيشه واسماعين نايمين)
ثم مضت به الأعوام ليهزه الحنين إلى مصره التي نفته.. فعاد متسللاً.. مغامراً ولكنه (ممتلئ) القلب والروح والصدر ب (هواء) باريس وأفكار أبنائها وإبداعاتهم: لوناً ونغماً وكلمة، وعندما رأى (الإسكندرية) أخذ قراره الجريء بالهبوط من سفينته، وهو يصور تلك اللحظة المرتعشة الواجفة من حياته قائلاً:
هتف بي هاتف وقال لي:
إنزل من غير عزومه
إنزل دي ساعة تجلي
فيها الشياطين في نومه
إنزل ده ربك تملي
فوقك وفوق الحكومة
خطيت في ستر المهيمن
للشط يا حكمداريه
هبط ودخل متسللاً ليكتب أجمل الأغاني الوطنية والعاطفية والوصفية وأروعها، وليختم حياته الأدبية برائعته الزجلية الصوفية: (القلب يعشق.. كل جميل)..
لقد كنت استرجع صور أولئك العشاق وغيرهم.. في كل مرة، وبامتداد المشاهد الباريسية وهي تتابع أمامي على طول الطريق: من مطار (أورلي).. إلى شارع (بلزاك) الموازي لشارع الشانزليزيه الأشهر.. والمسمى على اسم الروائي الفرنسي الشهير (بلزاك)، والمعروف بدرة أعماله الأدبية: (الكوميديا الإنسانية).. حيث فندقي الذي يحمل الاسم نفسه: فندق بلزاك.. لكنني هذه المرة وفي صحبة أخي الأديب والفنان الدكتور عبدالعزيز السبيل، ومع شعور ب (الأسف) على غياب رفيقنا الثالث في هذه الدعوة الأديب والناقد النابض الدكتور سعد البازعي.. كنت أتذكر وأسترجع صورة عاشقين آخرين من عشاقها ونجمين من نجومنا سأراهما فيها، أوغل (أولهما) في عشقها.. منذ أن ذهب إليها دارساً حتى أقام بها (مراسلاً) صحفياً لصحيفة الرياض الغراء.. فكاتباً بها فيما بعد.. لينطوي من عمر شبابه وأيامه ما يزيد على عقدين من الزمان وهو هائم بها وفيها، هو الصديق والأديب والكاتب الفنان الذي ترى في كتاباته ألوان الطيف مجتمعة: من زرقة السماء في الصباح.. إلى ألوان الشفق عند المساء.. وما بينهما: الأستاذ أحمد أبو دهمان صاحب رواية (الحزام).. التي كتبها في الأصل بالفرنسية من أجل، أن تقرأها زوجته وابنته منها (سارا).. ثم قام بترجمتها إلى العربية لتنشرها له (دار الساقي) فتكتسح كل ما سبقها، بصدقها ونقائها وحميمية عواطفها وتلك المناخات القروية المهجورة أو المنسية.. حتى قالت له إحدى قارئاته المغربيات: (لقد أعدت لنا ذاكرتنا)، أما (ثانيهما) فهو خريج (السوربون) الذي عاد إلى أرض الوطن بعد سنوات الابتعاث الطويلة: أستاذاً للأدب، وناقداً.. يجمع في عذوبة بين صرامة الناقد ورقة الأديب، ومثقفاً جهورياً: ملفتاً بطروحاته، ومثيراً بقلمه، لم يقرأه أو يستمع إليه أحد إلا اغتبط به، هو الأستاذ الدكتور معجب الزهراني، ثم رجع بعد سنوات إلى (باريس) بعد أن طلبت إعارته جامعة السوربون ليدرس الرواية والسرد القصصي في الأدب العربي فيها، فحرمنا منه.. وإن سعدنا بتقدير جامعة هي بحق حصن حصون القانون والآداب والفنون.
***
عندما عبرنا فوق نهر السين، وأطل علينا برج (ايفيل) بشموخه وعبقريته، ومقاعد زواره المتحلقة فوق أرصفته بلا عدد، علما أن فندقنا هو فندق (الهيلتون).. فلم أبتهج إذ كنت متوقعاً أن يكون فندقنا باريسياً.. في الأصل، أو فرنسياً.. على الأقل، وقد زاد من عدم ابتهاجي.. أن التدخين غير مسموح فيه إلا في موقعين: غرفة النزيل نفسها.. أو في مقهى في أطراف الدور الأرضي منه، وعلى الراغب في التدخين البحث عنها، ولم يكن ذلك ميسوراً في الدقائق والساعات الأولى من وصولنا، وسامح الله (منسق) برنامج الاحتفالية من الجانب السعودي أخي الشاب الدكتور ماجد عبدالله القصبي أمين عام مؤسسة الأمير سلطان الخيرية الذي أحببت أباه كما أحببته.. وثقافته الأمريكية التي أوصلتنا إلى هذا الفندق الأمريكي في قلب (باريس)، التي نعرف ضيقها بكل ما هو أمريكي.. إلا (الاقتصاد)، الذي هدد (الأجبان) الفرنسية ب (البوار) بعد أزمة الخلاف حول (غزو العراق) الذي كانت تتلهف عليه.. أمريكا (بوش) و(باول) وتعارضه فرنسا (شيراك) و(دوفيلبان) بصلابة وربما ب (شراسة).
على أية حال.. أمضينا سحابة نهارنا في الفندق، وعندما أقبل المساء.. كنا في رفقة عاشقي باريس (أبودهمان، والزهراني) نفكر فيما نفعل، وكيف يمكن لنا أن نتذوق بعضاً من أطراف ليل (باريس).. ونحن في مساء (الأحد) حيث الناس والأعمال.. في إجازة فاصطحبانا وهما العارفان بباريس وأحوالها إلى أحد مقاهي الشانزليزيه، لنفاجأ بالشارع وقد سبح في بحر من الأضواء، فإلى جانب أعمدة الإضاءة التقليدية وما أكثرها في الشانزليزيه.. كانت هناك حبات ضوء تتساقط من تلك العقود التي أقاموها حول أشجار الشارع.. والممتدة بطوله من ميدان (الكونكورد) إلى (قوس النصر) وكأنها حبات من الجليد أو (البرد) تتساقط على الأرض.. بينما الشارع يموج بالعربات والناس، ما بين عابر وجالس ومتسكع في نشوة وحماس.. وعلى غير وعكس المتسكعين في كل شوارع العالم الشهيرة والكبيرة.
ما بين فناجين القهوة التي أخذت تتوالى.. كانت أحاديث الثقافة والأدب والسياسة والاقتصاد والأزمات العالمية تتجاذبنا.. بطلاوة (الزهراني)، ودفء (الدهمان)، وقفشات (السبيل) الرائعة والتي لا تنتهي إلا لتفضي لأخرى.. منه أو منا، فإذا استطال (النادل).. صمتنا عنه، قدم إلينا، ليخاطبه.. أحدهما، بلغة فرنسية لا تخلو من ملحة (باريسية).. تسكره طرباً، بينما ألتزم ويلتزم الدكتور السبيل الصمت.. احتراماً لأنفسنا من (تأتآت) بالفرنسية لا لزوم لفضح أنفسنا بها أمام (النادل)!
عندما بلغت الحادية عشرة.. كنا قد انتهينا من هندسة برامج أيامنا وليالينا الثلاث بعد الانتهاء من حفل تدشين مساهمة (مؤسسة الأمير سلطان الخيرية) في دعم اللغة العربية في أروقة منظمة اليونسكو (للتربية والعلوم والثقافة): ترجمة فورية لمناقشاتها، وتحريرية.. لكل مخرجات تلك المنظمة العتيدة - التي أحسن منشؤوها في أكتوبر من عام 1946م.. عندما اختاروا (باريس) مدينة النور والحرية لتكون مقراً لها - وذلك عبر برنامج تأهيلي لإعداد مترجمين قادرين أكفاء تتولى (المؤسسة) اختيارهم من أبناء المغرب والمشرق العربي والوطن.. والإنفاق عليهم وتدريبهم.. بعد أن أعلن سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز خلال زيارته الأخيرة ل(باريس) عن تبرعه للمنظمة بمبلغ مليون ونصف المليون دولار من أجل إنجاز ذلك الهدف.
ثم افترقنا.. بأمل اللقاء في موعد الحفل بقاعة المؤتمرات الكبرى بمبنى المنظمة في .. صبيحة اليوم التالي.
***
في سكون المبنى الحضاري الفاخر والراقي على جادة (سوفران) في قلب باريس.. كانت جموع المدعوين من الغرب والشرق والجنوب والشمال من مندوبي دول اليونسكو، إلى جانب أعداد منتقاة من الأدباء والمثقفين والإعلاميين العرب والسعوديين.. تأخذ طريقها إلى قاعة الاحتفالات في ظل حفاوة ترحيبية بالغة كانت تعبر عنها بصدق وحرارة ابتسامات الزميل والصديق الدكتور زياد عبدالله بن إدريس مندوب المملكة الدائم لدى (اليونسكو)، لألمح بين وجوه الداخلين أصدقاء وزملاء وأحباء.. كان من بينهم الدكتور غسان سلامة وزير الثقافة اللبناني السابق، الذي عاد إلى (السوربون) محاضراً.. ربما حباً في باريس، وربما هرباً.. من حرج المنازعات على اختيار رئيس جديد للبنان خلفاً للرئيس السابق العماد أميل لحود.. قبل الاتفاق على مرشح الإجماع العماد ميشيل سليمان، ومن أعزهم الصديق والزميل: الصحفي المخضرم والنبيل الأستاذ تركي السديري رئيس تحرير صحيفة الرياض.. الذي قرأت خبر الاحتفالية هذه التي أحضرها فوق صفحاتها قبل أن أقرأه في أي صحيفة أخرى.
كان الاحتفال عربياً إسلامياً في برنامجه، ولكنه كان مقنناً في زمنه.. فلم يزد على خمس وأربعين دقيقة بالتمام والكمال، وقد بدأ بآيات من الذكر الحكيم، ثم تحدث الدكتور زياد عن البرنامج بلغة جميلة تذكر بالشاعرية العربية الأولى، ثم تحدث مدير عام المنظمة كوشيرو ماتسورا.. بلغته المسكونة بروح الدقة اليابانية المعروفة، ثم تحدث الأمير خالد بن سلطان نيابة عن رئيس مؤسسة الأمير سلطان الخيرية.. ليفجر في خطابه مفاجأة كنت أتمنى حدوثها، عندما أعلن مضاعفة مبلغ المساهمة لمشروع تحسين وتطوير أداء اللغة العربية في المنظمة.. إلى ثلاثة ملايين دولار حتى يتم إنجاز المشروع وتخريج الكوادر العربية في الزمن المحدد له بعشرة أشهر، لتقابل مفاجأة الأمير بعاصفة من الاستحسان والتصفيق.. استحقها واستحقها من قبل صاحب تلك الأريحية نفسها سمو الأمير سلطان بن عبدالعزيز.
كانت (الكلمات).. ب(اللغتين): العربية والفرنسية، فكان ذلك اليوم.. وكأنه يوم احتفال بأجمل لغتين عرفهما العالم على اتساعه: العربية بشاعريتها والفرنسية بموسيقيتها.