معمل أبي، وإن كان شيئاً حديثاً في زمنه، أي حين أنشأه في دمشق في الربع الأول من القرن العشرين غداة الحرب العالمية الأولى، فإنه بمقاييس اليوم يعتبر مصنعا متواضعاً. فمعظم إنتاجه كان يعتمد على العمل اليدوي، ولم يكن فيه مما يعمل على الكهرباء سوى عشر طاسات لإعداد الملبس، وكانت فريدة في نوعها يومذاك، وهي مصنوعة من النحاس الأحمر على شكل كرات كبيرة ذات فتحات أمامية، كان يوضع فيها المقدار المطلوب من اللوز، ثم يشغّل المحرك، فتدور الطاسات، ويكون تحت كل واحدة منها موقد ذونار هادئة، وبين فترة وأخرى يُسكب على اللوز مقادير معلومة من محلول السكر (القطر) ببطء، وبنسبٍ معينة وبكثافة وحرارة تتدرجان نزولاً إلى أن تصبح حبات اللوز مغلفة بقشرة سكرية ملساء رقيقة لها لمعان اللآلئ البيضاء.
وبالرغم من أن المكّلف بصنع الملبس يكون عادة أحد أمهر العاملين فإنه يجد نفسه، وقد اقترب من المرحلة الأخيرة، يهرع إلى حيث يجلس أبي وراء مكتبه، ليخبره أن قد حان وقت مجيئه لضبط كثافة القطر وحرارته، ثم ليسكبه هو بنفسه داخل الطاسة. فالضبط الدقيق لهذه السكبة الأخيرة، التي يتخوف العامل من مسؤوليتها، هوالكفيل بان يُعطي الملبّسة نعومتها وملاستها ولمعانها. ويدخل أبي إلى حيث الطاسات الدائرة والمواقد دون أن يعبأ بما قد يعلق على بزته الأنيقة، ولا سيما إذا كانت بيضاء أيام الصيف، من هباب المواقد وذرات القطر فيأخذ المغرفة من يد العامل، وبعد أن يتحقق من توافر كل الشروط اللازمة يروح يسكب، برشاقة يد المعلم الواثق، القطر داخل الطاسات العشر واحدة إثر أخرى بعد أن يكون قد طلب إطفاء المواقد التي تحتها. ومتى انتهت تلك السكبة الأخيرة المنكهة بالفانيلا يوعز بإيقاف حركة الطاسات ثم بإفراغها من الملبس الذي أصبح الآن يتلألأ كالدرر، وتفوح منه رائحة الفانيلا التي تملأ المكان، وتعلق ببزة أبي وبقميصه وبطربوشه.
الطاقة الكهربائية لم يعتمدها أبي إذا إلا في صنع الملبس، أما بقية أصناف الحلوى التي كان ينتجها فكانت تعتمد على المهارة اليدوية والإبداع المتأني وج ودة المكوّنات، وهذا ما أكسب حلوياته شهرتها وتفوقها. فقد ظل طوال حياته يؤمن مثلا بأن الشوكولاته يجب أن تصنّع يدوياً، وتطهى تحت إشراف مستمر وصبور، للتأكد طوال مدة إعدادها من دقة معايير مكوناتها وقوام خلطتها ولونها وحرارتها.. لهذا كان لا يرى أن التصنيع الآلي والضخم، الذي هوب الأطنان أحياناً، قادر على أن ينتج نوعية نفيسة من الشوكولاته. ومن هنا لا أفتأ أستذكر دائما رأيه هذا كلما وجدتني في عاصمة أوروبية، ولا سيما باريس، حين أرى أن المحلات الراقية المختصة ببيع الشوكولاته تفخر بأن بضاعتها المعروضة (مصنوعة يدوياً) حسبما تعلن في واجهة المحل، وبأنها تهيئها لزبائنها الذواقة يوماً فيوماً.
عمال المعمل لم يكن يتجاوز عددهم خمسة عشر عاملاً، تتدرج أعمارهم بين عشر السنوات والثلاثين. وبحسب أعمارهم تلك كانت تتدرج أيضا المهمات التي توكل إليهم، فالذين هم في صدر الرجولة والشباب كانوا يقومون بالأعمال التي تتطلب قدرات جسمانية وعقلية معينة؛ فعبد النبي، وهو الأقدم، كان بالإضافة إلى إشرافه على تنظيم وتوزيع العمل بين العمال صباح كل يوم، كان مسؤولاً عن صنع الشوكولاته، وعبد الرحمن عن صنع الملبس، ومحمود عن صنع النوكا يعاونهم في ذلك كله فتية أصغر سناً، فمنهم من يشعل المواقد، ومنهم من يحرك الماء والسكر في الأوعية التي فوق المواقد، ومنهم من يغربل الفستق.. أما صغار الصبية فكانوا يؤدون الأعمال الخفيفة التي تناسب أعمارهم وقدراتهم، مثل لف قطع الشوكولاته بالورق الفضي والنوكا بورق السلوفان الشفاف، وفرز حبات اللوز التي سيصنع منها الملبس بثلاثة أحجام مختلفة، أي كان على المكلف بهذا الفرز أن يصنف حبات اللوز في ثلاث مجموعات: العريضة، والوسطى، والصغيرة.
وحدث ذات يوم أن عُهدت إلى أحد الصبية الجدد هذه المهمة. وسارت الأمور معه على أحسن ما يرام مادام قد وجد من السهل أن يتبين الحبة العريضة من الحبة الصغيرة، ولكن الأمر كان يلتبس عليه أمام كل حبة يحار كيف يصنّفها، هل هي عريضة أم وسطى؟ فكان الحل الأمثل الذي اهتدى إليه، تخلصاً منها ومن حرج السؤال، هو أن يأكلها! وهكذا راحت الحبات ذات القياس المحيّر تنتهي واحدة بعد أخرى إلى معدة الصبي الصغير، حتى تجاوز ما أكله منها في ذلك اليوم أكثر من نصف كيلو. ولما حان وقت الغداء، الذي كان يتشارك فيه العمال بما جلبوه من طعام من بيوتهم، امتنع عن الانضمام إليهم، ولكن حين توالى إلحاحهم في دعوته، أسقط في يده وأعترف بما فعل وأخبرهم، وهو يداري خجله، أن غداءه اليوم كان لوزا! ورجاهم أن يكلفوه بعد الآن بمهمة بعيدة عن اللوز وعن حبّاته المحيّرة.