{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
قرآن كريم
بعد أن تولت في العراق القوى القومية المتعاطفة مع نظام عبد الناصر في مصر، تم إطلاق سراح المعتقلين وبينهم المثقفون العراقيون الذين كانوا نزلاء السجون والمعتقلات، خرج الكثيرون منهم مكسوري المزاج محطمي المشاعر لأنهم أجبروا على تقديم اعترافات سياسية والكشف عن انتماءات حزبية وكشف خلايا تنظيمية ثقافية أدت بعض الاعترافات إلى موت المعترف عليهم تحت التعذيب، ولا يزال الكثير من المثقفين يعانون من تأنيب الضمير ولا تزال الخلافات والاتهامات تظهر إلى الواجهة كلما اختلف شخصان من الوسط الثقافي العراقي. وعلى المستوى الاقتصادي فإن المثقفين لم يتمكنوا بالسهولة لا من ترميم مؤسساتهم الثقافية وفرقهم المسرحية المدمرة ولا من إعادة تجميع أنفسهم حيث الانقلاب الذي أطلق عليه (الانقلاب الأسود) قد ألغى بقانون كافة المؤسسات الثقافية والأدبية باعتبارها من مؤسسات اليسار الثقافي العراقي. وعلى مستوى المثقف الفرد فكان يحتاج إلى فترة من الزمن يستعيد فيها وظيفته التي فصل منها، فبقي يعاني من صعوبة العيش بعد تسعة أشهر من الاعتقال والتعذيب ومندون أية موارد مالية لأسرته التي تركها وهي تبحث في السجون والمعتقلات والملاعب الرياضية التي ضمت عشرات الآلاف من المعتقلين عن رب الأسرة وحاميها.. كانت العائلة تريد أن تعرف فقط فيما إذا كان رب الأسرة لا يزال على قيد الحياة، هذا بالإضافة إلى أن بعض المثقفين قد تم اعتقال زوجاتهم وترك الأبناء في حالة من اليتم والعوز وبعضهم في عمر الطفولة أو الصبا. وبعد أن تم اسقاط المؤسسة الحزبية المدنية للبعث، أطلق سراح السجناء والمثقفين السجناء، فمن بقي منهم حياً خرج محطم الروح والأمل وهو يعيش حالة اقتصادية ومعيشية غاية في الصعوبة وتفككت حالات أسرية كثيرة وعادت زوجات إلى بيوت الأهل تاركات الزوج يبحث عن وظيفته ومستنداته وشهاداته التي يعيد فيها تقديم طلب الانتساب للوظيفة ثانية بعد أن فصل منها بقانون. لم يكن الكثير من المثقفين يمتلك حتى ثمن بطاقة الباص ليتنقل بين المؤسسات في محاولة العودة إلى وظيفته فهو بحاجة إلى وثائق ثبوتية وشهادات ووثائق إعادة الاعتبار ووثائق إثبات أنه كان رهن الاعتقال وأطلق سراحه، فكانوا يمشون ساعات بين المؤسسات المتباعدة لجمع تلك الوثائق التي تؤهلهم للعودة إلى وظائفهم. عامان ما بين الاعتقال وإعادة الاعتبار مضيا على أغلب الفنانين والأدباء والمثقفين العراقيين وهم من دون أية موارد مالية، وكانت الصحف الجديدة التي بدأت تصدر قد استوعبت بعض المثقفين أو كانت تستكتبهم بالقطعة.
لم يمض سوى عام ونصف العام على حالة نسبية من الاستقرار بعد أن عاد المثقفون إلى وظائفهم حتى قام البعثيون ثانية بمغامرة جديدة تمكنوا فيها من الاستيلاء على السلطة في السابع عشر من تموز عام 1968. لكنهم لم يقوموا بذات الفعل المباشر إزاء خصومهم السياسيين كما حصل في شباط 1963 بل جلبوهم إلى مواقعهم وإيدلوجيتهم ضمن سياسة ما يطلق عليه العصا والجزرة. وما أن استتب لهم الأمر وتيقنوا من سيطرتهم الكاملة على زمام الأمور حتى أُعلنت النوايا.
من ليس معنا فهو ضدنا.
جئنا لنبقي كل العراقيين بعثيين وإن لم ينتموا
من يريد أن يتسلم العراق بعدنا فسوف يتسلمه أرضاً بدون شعب.
كانت الرسائل واضحة للناس وللمثقفين. وأصبح على المثقف أن يحدد موقفه لا سيما أولئك الذين عرفوا البعث من خلال سجون ومعتقلات شباط 1963. فئة أدركت بأن بقاء البعث سيطول وربما لن يزول فأعلنت تنازلها عن أفكارها ومعتقداتها وانتماءاتها الحزبية والأبديولوجية فكتبت الرسائل بالسر لمؤسسات البعث الحزبية وبعضهم جاهر بانتمائه بمقالات حتى يثبت حسن نواياه بشكل إعلاني لا يقبل التراجع أو الاختباء، فحصلت تلك الفئة على امتيازات ووظائف في وزارة الثقافة والإعلام وفي المؤسسات الصحفية والتلفزة والراديو، وصار الذي يلتحق بالحزب الحاكم ينقل من وظيفته في مؤسسات الدولة والوزارات التي لا تتناسب وحرفته الأدبية والفنية إلى وزارات الثقافة والإعلام ومؤسساتها الثقافية والإعلامية، وصارت هذه الفئة تتمتع بامتيازات اقتصادية ونقل بعضهم كملحقين ثقافيين في السفارات العراقية. وقد أصبحت القبضة حديدية بعد أن تسلم صدام حسين السلطة كاملة في بداية الثمانينات وبعدها أصبح العضو الحزبي هو رجل التنظيم الحديدي الذي عليه أن يكتب التقارير ويكون عيناً تحفظ الحزب من معارضيه، وصار المثقف والكاتب رجل مخابرات وشرطي أمن بالضرورة، وتسبب الكثير من المثقفين في إنهاء حياة زملائهم إعداماً (إعدام التشكيلي الدكتور شمس الدين فارس والدكتور راجي والمصور السينمائي قيس محمد والشاعر رياض البكري والمسرحي ماهر كاظم وعدد غير قليل من المثقفين والمذيعات في التلفزيون العراقي)، كلهم أعدموا بسبب وشايات عن وجهات نظر لأحاديث يومية عابرة عن الحياة السياسية او الثقافية نقلت من قبل المثقفين المنتمين للسلطة لأن عدم إيصال المعلومة قد تودي بحياة المثقف البعثي نفسه. فإذا كانت الحياة الإنسانية بهذه القسوة فكيف بالحياة الاقتصادية والمعيشية! أصبح العمل غير ممكن بالنسبة للمثقف غير البعثي أو غير القريب من حزب البعث. وسرت نظرية التبعيث بأشكال متعددة بين الترغيب والترهيب، وبعكسه يحرم المثقف من فرص العمل في المؤسسات الثقافية وحتى في المؤسسات الأخرى للدولة بل وحتى الحرمان من فرص الدراسة والتعليم. وفي عام 1978 قامت السلطة بحملة إعدامات في صفوف القوى اليسارية ما أدى ذلك إلى هروب أكثر من ألف مثقف مع أسرهم دفعة واحدة باتجاه بيروت والتحقوا بالمقاومة الفلسطينية وعملوا في مؤسساتها الإعلامية والصحفية. بيروت الحلم عند المثقف العراقي حتى أن أحد الشعراء عنده قصيدة عن البحر دون أن يرى في حياته بحراً. وعندما وصل بيروت استأجر سيارة تاكسي تأخذه لمنطقة الروشة فالقى نظرة سريعة على البحر لكي يبرر قصيدته البحرية وعاد ليضع حقائبه في الفندق. وبقي الأدباء والفنانون يتوجهون إلى بيروت حتى حصل اختناق في المؤسسات الفلسطينية حيث كانت تدفع للعنصر الواحد ما يقرب من ثلاثة آلاف ليرة لبنانية، تقدمها لمؤسسة الحزب الشيوعي العراقي التي كانت بدورها تدفع للمنتسب نصف هذا المبلغ أي ألف وخمسمائة ليرة لبنانية وهي بحد ذاتها تعادل ضعف مخصصات المقاتل الفلسطيني. كانت بيروت محطة للمثقف العراقي وأصبح الوطن شبه بعيد لاسيما بعد أن اشتعلت الحرب العراقية الإيرانية التي زجت بأغلب المثقفين العراقيين في جبهة القتال وخاصة أولئك الذين يشك في ولائهم الكامل للحزب الحاكم رغم تعاطفهم أو انتمائهم مع الحزب، وكان الهدف للتخلص منهم بشكل أو بآخر. وقد مات البعض أما الذي نجا من الموت فقد عاد ممزق المشاعر ومرتبك السلوك، وحيث كانت الإجازة المؤقتة من جبهة القتال صعبة ضمن اقتصاد الحرب والعراق تحت الحصار، فكان بعض المثقفين وبعض الجنود يذهبون باتجاه الجوامع أوقات الصلاة ليطلبوا الصدقة من المصلين لكي يتمكنوا من دفع أجرة وسائل النقل التي تعيدهم للجبهة حتى لا يلقى القبض عليهم بعد انتهاء الإجازة ويتم إعدامهم باعتبارهم هاربين من أداء الواجب الوطني. وحتى الذين لم يذهبوا للحرب فرضت عليهم الكتابة عن الحرب بعد أن انزعج الدكتاتور من أن الكتابة عن الحرب ومباركة انتصاراتها ليست بالحجم المطلوب فحمل وزير ثقافته رسالة بتهديد الكتاب والمثقفين بالفصل من الوظيفة والمعاقبة قائلاً (السيد الرئيس يقول: إن الجندي العراقي ينزف دماً على الجبهة وأنتم لا تنزفون حبراً)
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244