تميزت الرحلات التي قام بها بعض رحالة الشام إلى الجزيرة العربية عموما بكونها كانت تدوينات وصفية لرحلات العمل والعبادة، فأما العمل فقد نجده في تلك المدونات التي عنيت بتسجيل أحداث الطريق ومن ذلك (الرحلة النجدية الحجازية) للشيخ (محمد بهجة البيطار) وأما العبادة فقد كان الخروج المقصود أساسا فيها هو الحج أو مرافقة الحجيج ومن أمثلة ذلك (رحلة الحجاز) لعبد الغني شهبندر وهي الرحلة التي تشمل على وصف عام للحجاز وعلى المنازل والمناسك والأدعية ومسافات الطرق. وهذا البسط:
1- (الرحلة النجدية الحجازية صور من حياة البادية (1338هـ - 1922م) لمحمد بهجة البيطار الدمشقي.
لقد كانت هذه الرحلة لمقابلة الملك عبدالعزيز (رحمه الله).
بداية الانطلاق فيها يوم السبت 8 جمادى الثانية، عام 1338هـ (1920م) بركوب القطار من محطة القنوات بدمشق، وقد لاقى فيها من العنت والمشقة الكثير، ومن ذلك ما لاقوه من بعض عرب القبائل من السلب في أول الرحلة غير أن الرحلة لم تغفل الكرم العربي المتأصل في أهل الجزيرة العربية.
والموروث أبا عن جد ومن ذلك إطعام الضيف وإيواؤه، لكن الرحلة رغم مشقتها انتهت بعدول محمد بهجة البيطار عن لقاء الملك عبدالعزيز واكتفى بإرسال رسالة إليه مع زميله شلاش النجدي، أما هو فقد ذهب إلى المدينة المنورة التي عاد منها إلى دمشق بعد أن مكث فيها ثلاثة أيام - وكانت عودته ليلة الأربعاء 19 رجب الفرد عام 1338هـ وبلغ دمشق مساء الخميس 28 رجب عام 1338هـ بعد تسعة أيام من السعي.
وأما عن السبب الدقيق لهذه الرحلة فقد قال الشيخ البيطار في مقدمة مدونة رحلته: (وبعد فلما انقضى عهد الحكومة التركية في ديار الشام، وحلت محلها الحكومة العربية الأولى التي ترأسها الأمير فيصل بن الحسين (قبل أن يصير ملكا) دعا إليه الإمام السيد محمد رشيد رضا من مصر ليكون عونا له في الشؤون العربية والإسلامية، فكان منهما أن اعتزما إرسال كتابين باسمهما مع رسولين أمينين يبلغان رسالتيهما كتابة ومشافهة إلى السلطان عبدالعزيز آل سعود في نجد (قبل أن يكون ملكا). وهما يدعوان إلى نصرة الإسلام، وعقد اتفاق عام بين جميع أمراء الجزيرة العربية وأئمتها الكرام دفعا للعدوان الأجنبي، وطبعا فقد اختير لهذه المهمة محمد بهجة البيطار.
وتسجل الرحلة بمعايشة، جزء مما كان في الجزيرة العربية من الفوضى وقطع الطريق والسلب والنهب والثأر، كما يظهر في بعض أجزائها روح البداوة الجافية الأمر الذي يجعلنا ندرك النقلتين الدينية والتمدنية مما يعطي لعمل ودور الدعوة التي قام بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب وحكم آل سعود بعدا حضاريا استطاع تغيير نفسيات الكثير من القبائل المتناحرة والشديدة، وهو بعد يتجاوز بلا شك المهمة السياسية البسيطة في حكم البشر وتأطيرهم في إطار دولة..
2- (رحلة الحجاز) للدكتور عبدالغني شهبندر.
وهو طبيب متخصص بالأمراض الصدرية، وقد رافق - بصفة طبيب صحي - الحجيج السوريين الذاهبين بطريق البحر من بيروت إلى مكة.
وقد بدأت هذه الرحلة البحرية من بيروت في الرابع من شهر شباط 1936م.
وقد أبرز صاحب الرحلة في مدونة رحلته الدافع الإيماني الذي يرسي بميناء جدة ما يقارب الخمسين باخرة في وقت واحد مبينا أن الدافع المادي منتفٍ ويبقى الدافع الروحي وراء كل هذا إذ يقول: (وإن كانت هذه السواحل قفارا لا تستحق أن ترفأ إليها البوارج ولا السفن، فإن وراءها من المعنوي أمرا عظيما) (ص13).
وتبرز مثل هذه الملاحظات التطور المذهل الذي اجتازت المملكة أشواطه في عقود معدودة وقليلة.
وقد وصف الكاتب في مدونة رحلته منازل الحجاج ومناسكهم ونبش التواريخ في بعض المسائل، كما تحدث عن المأدبة الملوكية، وعن خطاب جلالة الملك عبدالعزيز، وقد نشره بطوله مبينا من خلاله الطابع الديني للحكم وقد كانت مبارحة الحجاز للعودة إلى بيروت في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1354هـ الموافق 18 آذار سنة 1936م.
والملاحظ على هذه الرحلات أنها ليست رحلات علمية متخصصة، وهي قريبة من المذكرات وتدوين الوقائع اليومية، ذلك لكونها لم تكن مقصدا بل تبعا لمقصد لكن رغم ذلك استطاعت أن ترسم صورة واضحة لما كان يسود المملكة العربية السعودية في تلك الحقبة مع ما حوته من صور فوتوغرافية تمثل شاهدا فعليا على أحوال ذلك الزمن وعلى النقلة النوعية التي حدثت بعد ذلك.