لو كان الأحبّة القدامى يصلحون للبقاء لما رحلوا!
حينما نضع في بالنا هذه الفكرة نكون قد ترفّقنا بأنفسنا وبالآخرين أيضاً، وما يسوؤني هو أنّنا نعلّم أطفالنا منذ وعيهم المبكّر أن ينذروا أنفسهم للآخرين، حتّى لو لم يكترث الآخرون بذلك الإيثار، والنذر، متعلّلين بغرس القيم فيهم، ومنها الإخلاص، أو الوفاء، أو التضحية...
حينما كنتُ أقرأ لطفلتي قصصاً احتفظت بها منذ طفولتي، استوقفتني قصّة (عروس البحر)، ولعلّ كثراً يذكرونها، قرأتها لها وأنا غير مقتنعة بالعبرة التي تحملها الحكاية. و تقول الحكاية: إنّ ملك مملكة في أعماق البحر كان له بنات ستّ، عرائس بحر، نصفهن الأعلى إنسان، ونصفهنّ الأسفل سمكة، كنّ يعشن بسلام وفرح، إلا واحدة منهن، كانت تحب الصعود إلى سطح الماء، ومراقبة السماء، والسفن، وعالم الإنسان. وفي يوم، وأثناء جلوسها على الشاطئ، لمحت شيئاً ما في عرض البحر، سبحت إليه، وإذ به شاب وسيم، أمير القصر المجاور، يغرق. أنقذته، وحملته نحو الشاطئ، وهو مغمى عليه، ووقعت في حبه، وبينما كانت تنتظر استفاقته، تقدّمت نحوهما فتاة جميلة ووالدها، فخافت عروس البحر وقفزت نحو الماء، حينها فتح الأمير عينيه، فوجد الأخرى أمامه، وظن أنها التي أنقذته، فقرر الزواج بها، في حين ظلّ الحب والشوق يمزقان قلب عروس البحر، فذهبت إلى ساحرة المملكة، وطلبت منها أن تحولها إلى إنسان برجلين، فقالت لها بأنّها ستحولها إلى إنسان كامل، لكنها ستفقد القدرة على الكلام، كما أنها لن تعود عروس بحر لو أرادت ذلك، وستفارق أهلها إلى الأبد. وافقت عروس البحر، ووجدت نفسها امرأة بقدمين تتجه نحو قصر الأمير الذي كان يحتفل بزواجه من الفتاة التي أنقذته. حزنت عروس البحر، فهي لن تتمكّن من الإفصاح له عن الحقيقة لأنها خرساء!
حينما علمت أخواتها العرائس الخمس بذلك توجّهن نحو الساحرة، ورجونها أن تنقذ أختهنّ، وتعيدها إليهن في المملكة، فأخبرتهن بأنها ستعطيهن سكيناً سحريّة حالما تغرزها عروس البحر في قلب الأمير ستعود إلى سابق عهدها، فتنزل إلى الماء، وطلبت الساحرة ثمن السكين شعورهنّ الجميلة، فأعطينها الشعور، وأخذن السكين، ورجون أختهنّ التي على اليابسة أن تغرس السكين في قلب الأمير، لأنها الفرصة الوحيدة لتعود إليهنّ وإلى أبيها ومملكتها، وعالمها. لكنّها رفضت بشدّة، وفي حين كان الأمير يعيش أيامه السعيدة مع عروسه، كانت عروس البحر، تجلس على الصخرة التي التقته عندها أول مرة، تنتحب، إلى أن ماتت وصعدت روحها إلى السماء.
ماذا أقول لطفلتي عن هذه الحكاية، والثيمات التي تحملها تتناقض مع الرغبة في الحياة!؟ أقول لها ألاّ تخرج على قوانين واقعها، أو ثقافتها؟ وإن خرج المرء وهذا كثيراً ما يحدث، فهل يدع حياته تذهب أدراج الرياح، من غير أن يدافع عن حقّه في الوجود؟ أم أنّ علينا أن نقضي بقيّة عمرنا ننتحب من أجل الذين رحلوا عنّا لصدفة ما، أو لأنهم وجدوا سعادتهم مع غيرنا؟ أم أقول بأنّ علينا أن نقتل الآخرين بسكين الساحرة، لنبقي على حياتنا!
هذه كلّها حلول لا تصلح لنكون وأطفالنا أصحّاء نفسيّاً، وأقوياء، نصلح لنكابد الحياة ونستمتع بمكابدتها. وإذا كانت القيم ثابتة لا تتحوّل، فإنّ الطرق إليها يعاد إصلاحها، وتعبّد من جديد بموادّ جديدة، أو تلغى، وتشقّ إليها طرق جديدة، فلماذا لا نعلّم أطفالنا بأنّ الأحبّة لو غادرونا، فهذا شأنهم، وبأنّنا نستطيع أن نبدأ من جديد من غيرهم، وسنكون أكثر سعادة، وأقوى، وأكثر قدرة على الاختيار والتمييز، فلا نحمّل أنفسنا تبعات رحيلهم، ولا نحمّلهم هم أعباء مغادرتنا، وإن بدأوا يتعلّلون بحجج يلمح من ورائها انفصالاً أو هجراً، فلنسهّل الأمر عليهم، لأنّنا بذلك نسهّله على أنفسنا، وإن كان لديهم نزوع ليتركونا، لا لنتركهم، فلنمنحهم شرف تركنا، ونحتفظ بشرف القدرة على المنح، لأنّهم لو كانوا يصلحون للبقاء لما رحلوا!
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244
* مدرّس الأدب العربيّ الحديث والآداب العالميّة في جامعة حلب