* لقد قرأت (بوشكين) مترجمًا.. لكن ترجمات عديدة لشعره لم ترق لي؛ لأن من قام بها محض مترجمين لا يملكون حسّاً حقيقياً، ولا يملكون تلك المفاتيح السرية العجيبة التي تمنح من يملكها قدرة على سبر أغوار النص الشعري المترجم، ولا يملكون - كذلك - قدرة خلابة على الإحاطة بتلك الغيوم التي تظل مختبئة في النص الشعري، وتنتظر أصابع قادرة على الوصول إلى ما تكنزه من مطر شعري عذب وصاف..
لقد كان ضجر كبير يمسني كلما قرأت تلك الترجمات المملة التي يركز أربابها على المعنى الحرفي للنص، أو على المضمون المباشر الطافي على سطح النص.. فتأتي القصيدة المُترجَمة إما مسخاً مشوَّهاً أو باعثاً على الغثيان كبيانٍ صحفي بارد، أو (فرمان) سياسي معتاد، أو تصريح غير ذي جاذبية..
وثمة ترجمات مسرفة في قدرتها على الاستفزاز السلبي أثناء القراءة، إذ تجعلني أشعر بشعور من يفاجأ ببضع حصوات صغيرة تبرز خلسة بين الأضراس، بينما كان يظن أن ما يقوم بمضغه لقيمات شهية مستساغة..
نعم، قرأت (بوشكين) في عدد من الترجمات، لكن تلك الترجمات لم ترو ِ عطش الروح التواقة إلى مطالعة جمال صرف وقراءة إبداع خالص، حتى عثرت على ديوان بعنوان (الغجر) يتضمن قصائد منتخبة لبوشكين، بالإضافة إلى تقديم ضافٍٍ وعميقٍ عن ذلك الشاعر الروسي الكبير الذي أحدث انقلاباً مهماً في بنية القصيدة الروسية وفي مفهوم الشعر بوجه عام، فضلاً عن أنه أخرج القصيدة من ترف (القصور) وأفق (السرايا) المحدود إلى رحابة الحقل واتساع الأرض وحركة الشارع وثراء الأحلام واصطخاب الحياة..
تولى ترجمة القصائد التي تضمنها ديوان (الغجر) الشاعر رفعت سلام وصدر عن دار ابن خلدون ببيروت في العام 1982..
وكم كان حبر (سلام) مدهشاً وهو يقدم للقارئ العربي أرغفة (بوشكين) الساخنة، ببراعة فنان يملك عينين مغايرتين لعيني أي مترجم عادي كل عدته تكمن في امتلاك لسان الآخر حسب..
فضلاً عن كون (سلام) يملك قاموساً لغوياً ذا ثراء واضح يؤهله لاختيار المفردة والعبارة الملائمة لما يترجمه من شعر، بالإضافة إلى ذلك الإحساس البهي الذي يملكه - وهو إحساس شاعر يرى فيما يترجم من نصوص ما لا يراه سواه من موظفي الترجمة!!
فتأتي النصوص المترجمة على يديه آسرة باذخة، وهذا ما فعله رفعت سلام مع قصائد (بوشكين)، فحين تقرأ قصيدة (الفارس البرونزي) - وهي من أهم قصائد هذا الشاعر الكبير الذي يتغنى فيها ب(أشياء الفقراء الثمينة)،- تشعر فور فراغك من قراءتها بذلك الامتلاء العجيب الذي يحدثه الشعر الحقيقي في النفس، بحيث تسير - بعد ذلك - (بروح تهدِّئ من عواصف الحياة)، لتهتف من ثم لرفعت سلام ولحبره الجميل الذي تمثَّل تماماً صوت (بوشكين)، بحيث استطاع أن يجعله يصل إليك صافياً وعنيداً وهويهتف: - (آه، يا إلهي.. هل كان ذلك حلماً؟ أم أن حياتنا كانت دعابة أخرى..................)..
وحين أكملت قراءة جميع القصائد التي ضمها جناحا هذا الديوان في نسخته العربية، لم يعد الديوان ديواناً، بل شرع يحلق كطائر جميل في سماء غرفتي الصافية.. على أثرها، نهضت هامساً في أذن رفعت سلام مستعيناً بصوت (بوشكين) نفسه قائلاً: - (إلى أين تحلق في الصقيع ِ أيها الحصان؟ وأين ستؤمَرُ بالتوقف)؟ وحين تصل إلى قصيدة (الغجر) - صفحة 105 - تتكشف لك آفاق تلك القصيدة الملحمة، القصيدة العلامة.. القصيدة التي تعتبر نجمة هائلة في فضاء الشعر الكوني الحديث، وعندها تماماً.. عند ضفافها الغنية تقبض على نفسك متلبساً بصوت (بوشكين) مستعيداً نشيده الجميل ومديحه العالي لأولئك القوم المصابين بلعنة الرحيل الدائم والشقاء المرير وبسطوة الغناء الذي يُعدُّ بالنسبة لهم زاداً ليس ينفد في غمرة كل ذلك الرحيل الطويل وفي جوع لا نظير له تقترحه الدروب العسيرة والطرق المبهمة..
نعم تجد نفسك تستعيد نشيد (بوشكين) في السادة (الغجر)، وتستحيل أنت كما لو أنك أصبحت صدىً بهيا لصوت ذلك الشاعر الكبير:- (في الهواءِ الطلْقِ نومهم هادئٌ وكما الحرية إقامتهم سعيدة..) إنك لا تكتفي باستعادة ذلك المقطع العميق، ولا تكتفي بأن تكون مجرد صدىً لريح الشعر، بل تجد نفسك وقد انتقلت إلى فضاء حياة ٍ كاملة لهؤلاء البشر المعنيين بأعراس الخيام ورقصة الريح ومطاردة الأطياف الجميلة البعيدة والانقياد لأشواق الروح وجمر القلب على الرغم من متاعب الجسد التي ليس منها فكاك، وتجد نفسك تعيش معهم تحت تلك القبة الكبيرة الزرقاء الصافية التي تدعى: سماءً، حيث (يرسل القمر وميضاً أبيض كاللؤلؤ).. أو حيث مشهد " أنهار من الضباب تطوي قمراً ماكراً..
سارداً معه عبر الشعر / الشعر وليس عبر أي وسيلة نصوصية أخرى حكاية الشاب (أليكو)، وذلك الرجل العجوز المتهدم، وتلك البنت التي تدعى (زمنيرا) التي يتألق قلبها كالوردة وتفيض أشواقها مثلما يفيض النهر.. (أليكو) يرى أنه: (حيث لا حب لا يُعرَفُ المرح، وتافهةٌ هي الحياة.. ولا تحمل أي متعة).
بينما يردد العجوز المليء بكنوز الحكمة الناضجة والخبير بمكابدات الحب وأسراره والضالع في معرفة تحولات القلب واشتعالات أفئدة النساء الخبيئة: (أكثر حرية من طائرٍ هو الحب.. حاولْ أن تحبسه.. وسوف يطير منك.. إنه يجئ.. ثم، وا أسفاه، يذهب للأبد . مهما حاولت مرارا أن تستبقيه..) و(زمنيرا)- وهي في عز احتضارها - تصرخ صرختها المدوية، صرختها المليئة بالتحدي، دفاعاً عن خياراتها في الحب، فيما المدية تسكن عميقاً جسدها الغض اللدن: (بحبي له.. أموت). ما أذكره لرفعت سلام، أنه هو الذي قادني - في بدء إطلالتي البكر على أفق الشعر العالمي - إلى (ما يكوفسكي) - الشاعر الروسي الكبير الذي قال ذات مرة: (لو لم أكن شاعراً لكنتُ فلكياً تقياً)... فبعد سأم طويل من ترجمات جهمة تجرّعتها قسراً كمن يتجرع كأساً من (حليب الغبار) - بحسب تعبير الشاعر العربي الكبير عبد الله البردوني -.. قادني سلام إلى (غيمة) مايكوفسكي لأرتوي هادئاً من مائها الذي تكنزه وهو ماء صاف، وذلك عبر ترجمته الشهيرة لديوان (غيمة في بنطلون)! تلك النسخة الجميلة التي ضاعت مني في حريق مباغت أتى على كل ما في غرفتي الصغيرة البسيطة التي كانت مشيدة فوق السطوح! لقد استطاعت ترجمته تلك أن تجعلني أشيد جسراً وطيداً من المحبة مع الشعر العالمي الحديث بأي لغة تمت هندسته في الأصل وبأي ضوع رفرف عالياً وحلق..
إن ثمة شعراء عرباً ممن يملكون لغة (الآخر) استطاعوا بحبرهم الفصيح نقل قصائد (الآخرين) بكل ما فيها من نبض وحرارة وحياة، لأنهم يسمعون جيدا خرير الينابيع وهي تتدفق في أوردة تلك القصائد.. ومن أولئك حتماً الشاعر الجميل رفعت سلام..
- جدة
mohsen-yo@hotmail.com