لم يعد الحديث عن شخص ك(ابن إدريس) من الأحاديث الميسورة، إذ لم يكن أحادي المهمات والاهتمامات ولا نمطي الأداء ولا واحدي المرحلة، فهو رائد من منطقته ومؤسس في بلاده ومواكب لمرحلة الانطلاق، وكل مخضرم وعى مراحله المتقلبة وواكبها بفاعلية تكون له حيوات متعددة، ولا سيما أن الحقول المعرفية تتنازع عليه، ومن الصعوبة بمكان أن تجسد في حقل معرفي أو في مرحلة زمانية، والتنازع قد يفوِّت على المتنازع عليه فرصة الانتماء والتجلي بحيث يسهل تصنيفه، وكم من مجايليه من العلماء والأدباء والمبدعين مَنْ عاش مثل ذلك، ولعلنا نتذكّر العلامة (علي الطنطاوي) الذي بدأ تذمره من نفي الفقهاء له لأنه أميل إلى الأدب، ونفي الأدباء له لأنه أميل إلى الفقهاء، والحق أنه مثقف متعدد الإمكانات والاهتمامات، ولا أحسب صاحبنا قد ناله ما نال مُجَايله، وإن أخذ بطرف من كل شيء.
فهو شاعر لا غبار على شاعريته، وقد أتيحت لي دراسة الظاهرة الشعرية عنده بعد صدور ديوانه بدراسة تحت عنوان (مع ابن إدريس في زوق الحلم الجميل) نشرت في (التوباد) 1409ثم نشرت الدراسة في كتابي (في الفكر والأدب: دراسات وذكريات) من مطبوعات نادي المدينة المنورة.
وهو أديب وناقد ومؤرخ للأدب تنازعته عدة تيارات ومدارس نقدية وأدبية، وحين كرمه نادي الرياض الأدبي كان لي شرف المشاركة بدراسة عن أدبه تحت عنوان (ابن إدريس ناقداً) وقد نشرت في جريدة الجزيرة في حلقتين يوم 10-8-2004م ويوم 31-8-2004م ولما تزل الدراسة في موقع الجريدة لمن أراد العودة إليها، تناولت من خلالها منهجه التاريخي في كتابه (شعراء نجد المعاصرون) ومنهجه النقدي في كتابيه اللذين جمع فيهما دراساته النقدية التطبيقية لطائفة من الأعمال الإبداعية وأثرت بعض التساؤلات حول مفهوم النقد وهل التاريخية والانطباعية والمختارات تعد من صنوف النقد بمفهومه المعاصر، ولا سيما أن مركز الكون النقدي استقر في حقل التلقي، وقد يأخذ دورته ثانياً.
وهو إعلامي أسهم في تشكيل الوعي الإعلامي، وهو من قبل ومن بعد عالم يضرب بسهم وافر في سائر المعارف، وهو فوق ذلك كله إداري واكب التعليم والثقافة والأدب في مواقع ومؤسسات لها دورها المتميز في تنشيط الحركة الأدبية والثقافية.
ولن أقول عنه ما قيل عن أبي بكر ابن العربي ت 543 بأنه الفقيه المحدث المفسر الأديب المؤرخ المثقف المتكلم، وإنما أجزم أن له المامات متعددة واهتمامات متنوعة ومن ثم أصبح أنموذج المثقف بكل ما يعنيه ذلك المصطلح المتشعب.
وهو معدود من المخضرمين الذين عاشوا مرحلة التأسيس وأدركوا شطراً من الريادة وواكبوا مرحلة الانطلاق، ولما يزل حاضراً ومشاطراً في حراك المشاهد كلها، والحياة الأدبية والثقافية في بلادي مرت بمراحل ثلاث: (الريادة والتأسيس، والانطلاق).
كان (الفقي) و(الجاسر) و(الصبان) و(عرب) و(ابن خميس) وآخرون ممن أوتوا بسطة في العمر قد مروا بالمراحل كلها أو ببعضها وكانت لهم بصماتهم الواضحة في كل مرحلة من مراحل الأدب والثقافة و(ابن إدريس) أعطى في المرحلتين الأخريين، وأدرك الأولى ولكن حسب تصوري لا يعد منها بالقدر الكافي. وإن عده (الشنطي) رائداً، ولأن العمر امتد معه - نسأل الله له المزيد - فقد أعطى في المرحلتين: التأسيس والانطلاق ما يذكر فيشكر.
قلت إنه شاعر تقلب في أعطاف المذاهب كلها ولم ينقد لشيء منها، وهو شاعر مقل لم يصدر له إلا ديوانان:
- إبحار بلا ماء. صدر عام 1419هـ.
- في زورقي. صدر عام 1404هـ.
وقلت بأنه ناقد، وهنا يجب أن نشير إلى جمعه بين الإبداع والنقد وتلك إشكالية أثارها الدارسون من قبل، وفي كتاب (الشعراء النقاد) إشارات لطيفة امتدت جذورها حتى العصر العباسي، وكأني بالنقاد لا يسلمون للشعراء مثلما أن الشعراء لا يسلمون للفقهاء، وفي كتاب شعر الفقهاء إشارات دون لطافة لما جاء حول الجمع بين الإبداع والشعر، ومثل ظرافة تنازع الأقاليم على الشعراء نجد التنازع يمتد بين قدرات الإنسان، وهنا تساؤل مشروع، لو سئل (ابن إدريس) ماذا يود أن يكون: شاعراً أو أديباً، أو ناقداً لكان جوابه كجواب الأعرابية التي سئلت: أي أولادها خير فصمتت طويلاً ثم قالت: إنهم كالحلقة المفرغة.
لقد تنازعته التيارات الموضوعية بقدر ما تنازعته التيارات الفنية، ولكنه كان الأميل إلى التنوع الموضوعي، كان إسلامياً تشده سلفية متفتحة، وكان عربياً محتدم المشاعر، ولم يكن ك(ابن أبي ربيعة) الذي فرغ لذاته وتغنى بحبه العذري ولكنه مع هذا ألمَّ بأكثر من نزعة، قرأت شعره على مهل وخرجت برؤية تختلف بعض الاختلاف مع ما توصل إليه الدكتور محمد الصادق عفيفي في كتابه (عبدالله بن إدريس شاعراً وناقداً).
وقرأته ناقداً عربي النزعة والاتجاه من خلال ما جمعه في كتابيه: (كلام في أحلى الكلام: دراسات شعرية) و(عزف الأقلام) ومن خلال مقالات ودراسات لم تر النور ومن خلال باكورة إنتاجه (شعراء نجد المعاصرون) فتبين لي أنه لم يتخلص من الذوقية والانطباعية، حتى لكأنه يصرّ إصرار (أبي نواس) على أنه ابن بجدة النقد لكون الشعراء على حد قول (النواسي) أعلم بالشعر ممن سواهم، وإن كانت له المامات معرفية في بعض تناولاته حول تشكيل الشعر الحديث وهي إلمامات تفرضها الذائقة، وبخاصة في جدله مع الناقد العربي (أحمد كمال زكي) وإذ تنقل مركز الكون النقدي من المبدع إلى النص ومنه إلى المتلقي فإن ابن إدريس الناقد ظل مؤرخاً للأدب متذوقاً للإبداع، فلم تستخفه المذاهب ولم يحفل بما حفل به عشاق الطوارئ، ومعاركه الأدبية لم تكن في إطار التجديد والمحافظة، لقد دخل في حوارات ساخنة مع علمين من أعلام الأدب هما (عبدالله بن خميس) و(عزيز ضياء) وكانت له مناوشات أو ردود مع عدد من الأدباء والنقاد محور الخلاف مع (ضياء) يدور حول مفهوم التراث، وحول الأبعاد الفنية في ديوان (في زورقي) ولقد كانت لي مشاركة للتوفيق بين الرأيين حول التراث تحت عنوان (التراث ونقده بين: ضياء وابن إدريس) نشرا في جريدة (الرياض في 21-12- 1406هـ و7-1-1407هـ)
ثم نشرت الدراسة في كتابي (في الفكر والأدب دراسات وذكريات).
وابن إدريس في دراساته الأدبية إما مؤرخ أو متذوق وإن تضلع من آليات النقد العربي كالنحو والصرف والبلاغة واللغة.
وإذ يكون شاعراً أمكن فإنه يعرف بذائقته مستويات الأداء، غير أنه لم يفرغ لشيء من ذلك، لم يفرغ للشعر ومن ثم لم يرتهن للشعر، ولم يفرغ للنقد ولهذا لا يعرف موهبته النقدية إلا أهل النقد وخاصته، وأحسبه الآن قد فرغ للمقالة الصحفية يبث من خلالها همومه وتصوراته للأشياء، ويفيض عليها من ثقافته وتجاربه، ولأنه وزع جسمه في جسوم كثيرة فقد دخل باب التنازع من أوسع أبوابه.
سيظل عبدالله بن إدريس أدبياً من كبار الأدباء وشاعراً من كبار الشعراء، وكاتب مقالة من كبار كتاب المقالة.
وكلمتي تلك لم تكن الأولى وأرجو ألا تكون الأخيرة.
قرأته حين أعددت رسالة الماجستير عن اتجاهات الشعر المعاصر في نجد وهي مطبوعة ومتداولة وقرأته حين أعددت رسالة الدكتوراه عن (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر) وهي مطبوعة للمرة الثانية ومتداولة، وكلفت بقراءته حين كرمه (نادي الرياض الأدبي) بوصفه ناقداً، وقرأته من قبل حين صدر ديوانه (في زورقي) ومررت به في رسائل الماجستير والدكتوراه التي ناقشتها أو أشرفت عليها وما وجدت أحداً ينكر مواهبه المتعددة وقدراته المتنوعة وكم تمنيت أن أختلف معه كما اختلف معه الأديب الكبير عبدالله بن محمد بن خميس والأستاذ عزيز ضياء وآخرون حول بعض القضايا الأدبية.
لقد اختلف معه الأستاذ عزيز ضياء حول مفهوم التراث ومشموله واحتدم النقاش بينهما فدخلت للتوسيط وفك الاشتباك وإحالة الاختلاف إلى التنوع في الآراء واختلاف المفاهيم حول المصطلحات ونشرت المداخلة في جريدة الرياض في حلقتين.
لقد كان حاضراً في إبداعه وفي عمله وفي كتاباته، كان رئيساً لنادي الرياض الأدبي، وكان من قبل رئيساً لتحرير مجلة الدعوة في زمن غير مواتي فأحدث نقلة نوعية في نادي الرياض الأدبي، وأحدث نقلة صحفية في مجلة الدعوة التي أصبحت فيما بعد جريدة، وكان مسؤولاً في أكثر من قطاع ثقافي وفي كل موقع يمر به سواء، تلبث فيه أو تعجل يترك أثراً يتفق معه عليه أناس ويختلف معه آخرون.
ومهما اختلفنا أو اتفقنا فإنه سيظل جزءاً من الحركة الأدبية والثقافية والإعلامية في بلادنا، ولربما كان من أوائل من جسروا الفجوات بين أدب البلاد والآداب العربية وذلك حين أخرج باكورة إنتاجه (شعراء نجد المعاصرون) لقد سعى بنفسه لإيصاله إلى كبار الأدباء في مصر والشام والعراق وتناوله الدارسون والنقاد العرب من الداخل والخارج وكان له الأثر في التعريف والتعرف على إبداعات الشعراء المعاصرين في جزء هام من أنحاء المملكة الفتية آنذاك وكتب عنه النقاد واستفاد منه كل الدارسين الذين جاؤوا من بعده وأنا منهم، وتكريم علم من أعلام الأدب مثل الأستاذ عبدالله بن إدريس من أوجب الواجبات وأحسبه الأجدر في تكريم الدولة، و(الثقافية) سبّاقة إلى مثل هذه الإسهامات المتميزة فلها وللقائمين عليها الشكر والتقدير.
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5183»ثم أرسلها إلى الكود 82244