إن حصاد عمر لا بد من تجرحه.. المشكلة هم.. والأشجان غم.. والحياة مغموسة في دعاء كبير مثقل بالأحزان.. والدموع.. والآهات.. لا أحد في دنيانا مهما علا قدره.. وجل شأنه لم يذق مرارة الألم.. لم يذرف دموع مصاب.. ولم يتجرع كأس حنظل أرغمته حياته على تناوله.. شاعرنا اختار الإبحار في عالم همه وشجنه.. الذي هو عالم كل واحد منا وإن اختلف المشهد.. وإن تباين السبب والمسبب..
بدايةً ببلوى الحب بدأ التطواف في دنيا الحزن:
بلوت الحب حتى قلت ليتي
أموت فأستريح من العذاب
فقالوا: ليس موت بالتمني
وإن يُكتب فما لك من غلاب
فقلت: علمتُ ولكن في التمني
شفاء للمحب من العذاب
فقلبي يا رفيق به ضرام
طلبت له الدواء ليستطاب
بهذا الوجع الممزوع بصدمة اليأس اختار الدواء الذي هو الداء.. اختار الموت.. والموت لا دواء له.. حتى ولو كان رفيقه يعيش إلى جنبه.. الغياب هنا يهزم الحضور.. ويجهز على ما تبقى في القلب من بقايا.. البقاء.. لا حب دون حياة.. ولا حياة بضياع من نحب.. ومن محاولة الموت إلى محاولة النسيان.. وكلاهما مركب صعب:
سأنسى حبيبي وأنسى هواه
وأنسى برغمي ليالي صفاه
قضينا الليالي تذوق الغرام
ونلهو ونلعب نجني جناه
وعند اللقاء يتوه الكلام
وتنطق فينا لغات الشفاه
ماذا استجد على هذا الحب إلى درجة التنكر له ومحاولة نسيانه..؟
وشاء الإله فقطت زهور
وجفت زهور سقتها دماه
(فقطت) مفردة غير مفهومة.. المفهوم أن تقطف الزهور.. وكي يستقيم بناء البيت أرى أن تستبدل كلمة فقطت بمفردة.. (فماتت) لأن نسيان الحب يعني موته.
شاعرنا في وجدانه مأزوم ومهزوم، فمن خيار الموت، إلى اختيار النسيان المفضي إلى الموت، إلى الهم الذي أرقه وأقض مضجعه:
الهمُّ أرقني، وهدَّ كياني
والنوم فارق مقلتي وجفاني
فتن يلاحق بعضها بعضاً فما
للعدِّ فيها أول، أو ثاني
همه هذه المرة لم يكن عاطفياً.. وإنما إيمانياً وهو يرى على مسرح الحياة من يتطاول على عقيدته.. وعلى مبعوث رسالة السماء.
من قال حقاً، أو أقام عقيدة
في دولة للعلم والإيمان
فكأنما سب النبي محمداً.!
وكأنه عند الحكومة زاني
بهذا التوصيف جاء تراكمات همه ثقيلة لا يمكن تحملها..
شاعرنا من القطر العربي الكبير ينجاب إلى البحر.. ويستوحي مشاهده شعراً:
تتكسر الأمواج فوق متونه
كتكسر الألماس فوق جبين
فلطالما أبحرت خلف رحابه
أرنو إلى عذب المنى ترويني
هناك شيء ما يتحرك حول الماء.!
فدنوت منه حياءً علَّني
أحظى بما لم تحتسبه ظنوني
فأهلَّ لما أنْ رآني مقبلا
وتمايلت أغصانه لتقيني
فحمدت ربي أن حباني نعمة
فوق الذي أملتُ أن يعطيني
ودعوته في أن تدوم كريمتي
عوناً على دنياي، بل في ديني
هذه المرة لا طعم للشقاء ولا مرارة للقاء في حياته.. وإنما حب انتهى بعقد شرعي.. بشريكة حياة هي أم أولاد شاعرنا.
(النجوى) خاطرة مختصرة:
الخد منك مُورد
والجفن مني مسهدْ
وأنادي حلم نفسي
كل يوم له غد
فيجيب عليَّ يومي
أين مني ذا الفذ
فيرد صدى بعيد
حان ذاك الموعد
فسخرت من ذاك الذي
أمسى صداه ويتردد
لا أكتمك البناء الشعري جاء مهتزاً.. والصورة ضبابية.. وإذا كنتَ سخرتَ فنحن معك أيضاً أحسسنا بالملل.. وبالضيق..
الوقفات الشعرية لدى شاعرنا قصيرة.. جلها يتحدث عن مناسبات ذات خصوصية.. ولأنني لا أنجذب إلى شعر المناسبات، لا تقليلاً من شأنها ولكن بحثاً عن وقفات تأملية لها شمولية النظرة.. وجماعية الرؤية حتى ولو جاءت غارقة حتى هامة الرأس في همومها وأشجانها:
(إلى أن تشرق الأنوار)
قد قلت حين لفني الظلام
لا بأس بالإقدام.. ما قيمة الإحجام؟
أثاره نعيق الغربان المحومة من حوله.. ومشهد الأقصى الأسير.. قدَّم نفسه الفداء لقدسه..
إليكم بعض أشلائي.. يدي، والأنف، والأذنين
وبعض أصابع القدمين.. تذكركم بإخلاصي
وإني لم أكن يوماً جبان القلب.. أو قاسيا..
من قدَّم كل هذا من جسده لا بد أن يكون قوياً في مقاومته.. عنيداً في مواجته.. بل وقاسياً بمقاييس النضال..
(يا أخي).. أبيات ثلاثة أودعها فكرة الذين ينسون أو يتناسون وصلهم وتواصلهم:
يا أخي لا تُمل بوجهك
فأنا مثلك مثلما أنت مني
إن يكن جسمنا تفرق، أنا
محض روح تقاسمت جسديه
كم شربنا من الوداد رويا
كيف تنسى الوداد (يحيى) أجبني
الشطر الأول من القصيدة ناقص.. والصحة (يا أخي لا تمل بوجهك عني).. وهو شطر مأخوذ من قصيدة تقول أبياتها:
لا تشح يا أخي بوجهك عني
ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
(من وحي الحج).. جاءت بهذه التهويمة الإيمانية..
جناح الشوق يحملني
إلى أوطان أحبابي
قضينا منسك الحج
تعلقنا بأهداب
أتينا كلنا درن
بأوجاع وأوصاب
وطفنا حول كعبته
من أوَّاهٍ، وأوَّاب
رجونا عفو خالقنا
عظيم المنِّ، وهاب
في رثائيته لأمه جاءت هذه الأبيات:
أمي إليك تحية المشتاق
ومحبة نُشرت على الآفاق
كم كنت يا أماه راحة مُتعب
ولأنت يا أماه درعي الوافي
ضحيت يا أماه دوماً بالذي
تهوى الملاح من الهوى البراق
وصبرت يا أماه صبراً طيبا
ولكم جرعت مرارة الأشواق
القصيدة تطغى على أبياتها التقريرية المباشرة من جانب.. والوفاء والبر لوالدته..
(محمد الدرة) كان له تواجد في ديوانه:
يا (درة) من فوق تاج القدس تأتلق
وشامة في جبين المجد تعتنق
ويا منارة عز في حضارتنا
ذكرتنا بالآلي راحو، ومن سبقوا
الشطر الأخير يتوكأ على عكاز لأنه يعرج.. ولكي يتحرك سليماً يحسن أن يأتي هكذا.. (قد ذكرتنا بمن راحو ومن لحقوا..)
لم ينسَ الأحساء التي احتضنته لسنوات وسنوات مدرساً في كلية التربية للبنات بالهفوف قال عنها:
أحساء تيهي على الأسراب أحساء
فيك الجمال وفيك النخل والماء
وفيكِ من كل شيء رائع مثل
تهفو له في رحاب الأفق جوزاء
فأنت منهل علم طاب مورده
منه ارتوى من قديم الدهر أبناء
روائع الشعر صاغوها مضمخة
بالعطر عين سخت بالورد أنحاء
هذي المجالس نغشاها فيطربنا
شعر أصيل له في النفس أصداء
لعلها من أفضل قصائد ديوانه.. وأسلمها.. وأرقها عبارة..
الدين قاسمه المشترك الأعظم.. إنه يغار عليه.. ويدافع عنه.. تلمس روحه ورياحه بين ثنايا وتجاويف شعره تلميحاً تارةً، وتصريحاً أخرى..
هذه المرة تحدث عن (دين الحب والسلام)
ألفنا العيش في أفياء دين
له في كل حادثة كلام
يؤلف شملنا بالحب دوما
فيربطه بيننا أبداً نظام
قلوب الناس شتى رغم قرب
وملء قلوبنا سكن الوئام
فهبوا أيها الإخوان واسعوا
فبالجنات ما فاز النيام
وللقهوة العربية غنى:
أيا قهوة جاءت إلينا تحية
لها في عقول الشاربين مزاج
حبذا لو أبدل كلمة (جاءت)
بكلمة (صُبت) إنها أنسب..
فيا أيها الساقي أدرها هنيهة
أضيء بها للمحتسين سراجُ
لعل لذيذ الطعم يبقى على المدى
وداداً.. يريح النفس وهو رتاج
نطاسية تشفي القلوب بريقها
ويحفظها للشاربين زجاج
وفيها يلوح الزعفران بنظرة
أشمس بدت للناظرين، وتاج؟
الأحساء أودعت فيه حساً، ومذاقاً يسترجعه بين الفينة والأخرى لا يكل ولا تمل منه.. ها هو من جديد يترنم بها عشقاً..
يا عاشق الأحساء حسبك أنها
جعلت لها وجه الضياء نقابا
يا عاشق الطود الكعاب شميمها
بعد الكرى يبقى شذا جذابا
يا عاشق الأحساء حسبك أنها
كرمت، وطابت موئلا ومآبا
فالحسن يغري بالقريض فينتشي
متدفقاً، مترقرقاً، منسابا
فيها الطبيعة قد تضاعف حسنها
ماء، ونخلا شامخاً.. وشبابا
ليست الأحساء وحدها بمائها ونخلها وشبابها.. هي التي أسرته.. قهوته العربية أيضاً فتحت شهيته للكلام كما سبق أن تحدث.. حين يعشق الشاعر يحب كل الأشياء من حوله حتى تلك التي لا تقيم اهتمامات داخل نفسه..
(عين شمس) أخذته معها.. وأخذها معه.. الماء في جوفها.. والمداد في جوف قلمه:
شعاع سرى من عين شمس فأشرقت
ربوع الحسا منه، وضاءت نجومها
الأفضل إبدال كلمة (وضاءت) ب(أضاءت)
وأنت الذي أسهمت في غرس نبته
بأرض الحسا يوماً ستؤتي ثمارها
بلاد بها علم، وفقه، وحكمة
وزادت بكم علماً، وطاب نخيلها
وتسترجع ذاكرة شاعرنا ابنته إيمان التي غادرته إلى أرض الكنانة على أمل العودة.. يخاطبها في شوق ولهفة.
إيمان.. إن فارقتِ أرضاً نزلتِها
فحلت بكم جيداً.. وتاهت على السها
وعدتم إلى أرض الكنانات والنهى
فلا تنسي الأحساء، لا تنسي أهلها
وعودي إلينا بعد حين حبيبة
لها في قلوب الطالبات مكانها..
(الصحيح أرض الكنانة) لا الكنانات.. حتى في ميزان إيقاع البيت
تمنى أن يرثيه أخوه صفوت.. فرثى أخاه صفوت بهذين البيتين المعبرين:
كم كنت أوثر أن تقول رثائي
لكن سبقت ففزت بالعلياء
يا شطر نفسي، يا حبيبي، يا أخي
يا نور عيني، يا محط رجائي
(سهم قاتل) لم يمهله طويلاً كي يكمل قصيدته..
قابلتني ذات يوم
غادة، حسنا، كحيلهْ
فرمت قلبي لسهم
قاصد، يقتل غيله
رحمة بي يا فتاتي
عرف السهم سبيله
دخلنا معه في عش دبابير الغرام.. حيث السهام القاتلة من جانب (وحيث المغامرة السارة)
تهْ يا غزال دلالا
ولا تشك ملالا
فقد ملأت فؤادي
محبةً، وجلالا
لذا سألت إلهي
سبحانه وتعالى
أن تستقر بقلبي
وأن تكون حلالا
ومن العش.. إلى أدبيات الوصايا.. والنصائح..
ابنيتي وضح السبيل فسيري
نحو العلا والمجد خير مسير
وتزودي من فيض علم نافع
فالعلم نور، وهو خير ظهير
تلك هي النصيحة:
تكلَّم ما استطعت بعذب لفظ
فإن اللفظ يبقى بعد موتك
تسجله ملائكة كرام..
بكتب تنتشر في يوم بعثك
وهذه هذه النصيحة..
وفي نهاية القطاف من هذا المطاف مع شاعرنا ابن النيل د. نسيم عبدالقادر في ديوانه: (هموم وأشجان) نقف مع مقطوعته الشعرية الأخيرة بعنوان (هذي الحياة) كيف رآها.. وكيف رسمها وتحدث عنها:
هذي الحياة لماذا نحن نحياها؟
وقسوة العيش فيها كيف نرضاها؟
قل لي بربك أيها القمر الوضيء
وبدد الشك في نفسي لتحياها...
الشطر الأول من البيت الثاني مختل ومعتل فاقد لتوازنه وانضباطه مع ما قبله وما بعده، حسناً إيراده كما يلي:
قل لي بربك هل جاوزت أسئلتي
ويمضي مستشهداً بمشاهد من واقع حياة البشر
إن العباد لشتى في حياتهموا
فمؤمن، وملحد برب الأرض بناها
الشطر الثاني في حاجة إلى تبديل.. أنسب شيء له أن تقول:
فمؤمن قانت.. وملحد تاها
ويستكمل قصيدته العرجاء..
يحيا عليها ويرقى في معارجها
ويركب الفلك فلك البحر وسماها
القصيدة في مجملها من أول شطر حتى آخر شطر منشطرة يصعب تجميعها، ولا تلميعها.. الفكرة لا غبار عليها.. أما الصياغة والديباجة الشعرية فمليئة بالغبار.. الذي سد منافذ الرحلة معك ولكن دون قذى ولا أذى، وكان في استطاعتك أن تعطي من الشعر أجمله وأفضله.. وأكثره اتساعاً في بُعده الحياتي..
أنا بهذا لا أقلل أبداً من عدم مقدرتك.. ففي بعض أبياتك إيحاءات، وتجليات تُحسب لك.. ولكن في الكثير منها اجتهادات لم توفق.. ربما لاستعجال رصدها.. وربما أيضاً لعدم إعادة النظر إليها قبل طباعتها والتأكد من سلامة بنيتها الشعرية..
أشد على يدك صديقاً.. ورفيق رحلة.. أرجو أن تتجدد مع عطاء شعري آخر أكثر توفيقاً.. وتوثيقاً.. وشموليةً في أبعاد مراميه ومضامينه.. وأجزم أن تجربة يسبقها التأمل محصلتها عطاء مثمر كنخل الأحساء.. وماء نمير كعين شمسها.. ورشفات مستطابة كرشفات القهوة المزعفرة في فناجيلها الزجاجية المزركشة..
العزاء لك فيمن رحل.. والبقاء لك ولمن تحب.. هذه دعوتنا جميعاً.. وقد صَدَقْتَنا الرحلة.. وصدَّقناك حصادها والصديق يا عزيزي من صَدَقك لا من صدقك.. ولكن بتجرد..
****
لإبداء الرأي حول هذه المراجعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5621» ثم ارسلها إلى الكود 82244
الرياض : ص.ب 231185
الرمز : 11321 - فاكس : 2053338