كل منّا يعتقد أنه يملك المعرفة التي تسوّغ له الحكم والتقويم، ونحن بذلك نقع وسط مشكلتين أولهما (ما نعتقده عن أنفسنا) والتداخل بين الوهم والحقيقة، والثانية (قيمة المعرفة التي نمتلكها)، والتداخل بين الثابت والمتحول، وهما مشكلتان لأننا لا يمكننا معايرة محتواهما، بما يعني شيوع النسبية، أي أن الأفكار تظل في حالة تجريب مستمرة، وفقا لتطور البدائل ونوعياتها، وعدم الثبات هذا قد يؤدي إلى التقاطع بين أفكار الأفراد، ولا أقصد بالتقاطع الاختلاف، لأن الاختلاف مثري ويؤدي إلى التكامل، في حين أن التقاطع مقفر يؤدي إلى الصراع بين الأفراد، فنحن متيمون بأفكارنا، مما يصعّب مسألة التنازل عنها مقابل أفكار الغير، ونحن أسرى عند أفكارنا، مما يصّعب مسألة التحرر منها مقابل الاندماج مع أفكار الغير، ولذا أعتقد أن تلك المشكلتين -ما نعتقده عن أنفسنا وقيمة المعرفة التي نمتلكها- مصدر دكتاتورية الأفراد بمن فيهم المثقف، وإن كان المثقف يختلف عن الفرد العادي، اختلافاً يتعلق بتضخم (أناه) الناتج عن مقدار الكمية ونسبة الدرجة ومستواها لتلك المشكلتين، باعتباره قادر على تصميم النموذج البديل، أو هكذا يتوهم، وهماً طالما أوقعه في فخ أسلوب خطابي دكتاتوري، بأنه يرى مالا يراه الآخرون، ولعلي أمارس ما اتهم به غيري من دون قصد (فكلنا يا عزيزي دكتاتوريون بطبعنا)، أقول بأنه يدعي -أي المثقف- رؤية مالا يراه الآخرون، الرؤية ببعديها الإدراكي والتنبؤي، وهذه إحدى إشكاليات المثقف السعودي سواء الحداثي أو المحافظ (الأسلوب الدكتاتوري) لمكتوبه الثقافي، الذي يبني مخططاته وبدائله على إقصاء الآخر من جانب وممارسة الوصاية على العقل الجمعي من جانب آخر.
إن ممارسة الإقصاء أبرز خصائص مكتوبنا الثقافي أو هكذا أعتقد، تتم لأن كل من المثقف المحافظ والحداثي يعتقد أنه هو من يمتلك النموذج الأفضل للمجتمع، وغيره لا يملك سوى التخلف أو الخراب، هذا التقاطع بين أفكار المثقف المحافظ والحداثي هو الذي أورث مكتوبنا الثقافي أسلوبه الدكتاتوري، أقول أورث لأنه (مُكتسَب) موغل في القدم، وليس آني النشأة، بما يعني أننا نتحدث عن إحدى أهم بنى العقل الجمعي لدينا (صراع الأفكار)، واختلاف ظرفيات الزمن هو الذي يؤثر على حالة إعلان الصراع بين المتقاطعات أو اختفائه، والاختفاء لا ينفي حالة الصراع بل يدل على تفوق فكر على فكر.
ولا شك أن هناك أسباباً لتفوق تيار فكري على تيار فكري آخر أهمها تحيز الخطاب الرسمي لذلك الفكر، مما يعني فتح قنواته الإعلامية لشيوع مبادئ ذلك الفكر، وهو بذلك يقوي سلطته من خلال سلطة الخطاب الرسمي، مما يتيح له التأثير المؤكد على المتلقي، لأننا تعودنا على أن الشيوع معادل للصحيح، ولكن عليّ أن أنبه إلى ملاحظة وهي أنه متى ما تحيّز الخطاب الرسمي لتيار فكري مخصوص فهذا يعني بالتأكيد وجود ملتقيات متشابهة بينهما ومنافع متبادلة.
ولكني أعتقد أننا في الوقت الراهن نعيش إلى حد ما حالة توازن بين الفكرين، المحافظ والحداثي على مستوى الخطاب الرسمي، أو على الأقل الخطاب الرسمي الحالي يحاول أن يخفي تحيزه نحو فكر معين، من خلال ممارسته كوسيط توافقي بينهما، وهي ممارسة مصدرها (المشروع الإصلاحي) ووسيلته (الحوار الوطني) الذي يتبناه الخطاب الرسمي، أما هل نجح الخطاب الرسمي في مهمته التوافقية تلك أم أخفق؟ فالإجابة تحتاج إلى حديث آخر.
ولكن على المستوى الشخصي لمثقفي كلا الفكرين فما زال الصراع مستمرا على مسألة، أن كل واحد منهما يمتلك بدائل الإصلاح والتطور والتنوير والثقافة العولميّة دون الآخر، ومسألة تشكيك كل منهما في قدرة كل طرف على المساهمة في بدائل الإصلاح والنهضة، ومسألة أحقية كل منهما في الريادة ونتائجها، وهو ما يزيد من تكاثر التقاطع وحدته، وعلو نبرة الفكر والأسلوب الفرديين حتى في التيار الواحد، وتوسيع فجوة الإقصاء.
فهل التعايش التوافقي بين الفكرين غير متاح؟ وهل اشتراكهما في مشروعات ثقافية إصلاحية وتنويرية غير متاح؟
نحن من نقرر المتاح وغير المتاح، فهي إرادة بشرية عبر مواقفنا وممارساتنا، لأن كل ما على الأرض نحن من يصنع قدره وقضاءه، وقد يتحول ما هو متاح إلى غير متاح والعكس صحيح، ومسألة التحول تلك عادة ما تتعلق بظرفيات الزمان والمكان والطبيعة الخاصة للمثقف.
وأعتقد أن الظرف الراهن غير متاح لوجود مشروع ثقافي توافقي مشترك بين المثقف المحافظ والمثقف الحداثي، لأسباب جلّها تتعلق بطبيعة المثقف لدينا ومنها كما أعتقد.
الأمر الأول، (التفكير الحربي) للمثقف السعودي، إن الصراع بين الأفكار الثقافية لدينا، صراع قائم على ثنائية الانتصار والهزيمة، وليس البقاء للأفضل، هذا التفكير الحربي للمثقف السعودي، والذي تستطيع أن ترجعه إلى فكرة رومانسية الفروسية التي ورثتها الثقافة العربية من تراثها الأدبي القديم وفكرة النضال التي استمدها من التجربة الأدبية الثورية العربية في الأدب العربي الحديث، وهاتان الفكرتان استطاعتا أن تحقق له قيمة لذاته الثقافية، كونه مصدر الصراع ومحركه، حتى أصبح الأمر لدينا (كلما زاد أعداؤك زادت قيمتك)!.
والأخطر من ذلك أن ارتباط تفوق الذات الثقافية أو إخفاقها بتلك الثنائية تدفع المثقف إلى ممارسة العنف الثقافي كالاصطدام بالعقل الجمعي ومصادرة التراث وإقصاء المُقلِد، وفي المقابل الاصطدام بالعلم ومصادرة التجديد وإقصاء المجدِد، وقد يتحول العنف الثقافي إلى عنف مادي إذا تحول أي منهما إلى سلطة.
والأمر الثاني أن المثقف السعودي لم يعتد على الإنجاز داخل المشاريع الجماعية، لأن المشروع الجمعي يتعارض مع غرور ذاته الثقافية، الغرور الذي يحقق لها قيمتها، وهذا ما يفسر لنا خلو الثقافة السعودية من الجماعات الأدبية، وحتى تلك التي قامت في وقت من الأوقات ما لبثت أن تفككت بعد وقت قصير بسبب دكتاتورية ذات المثقف، فثقافتنا هي ثقافة تُنسب إلى أفراد وليست ثقافة مشاريع، لأن المشاريع الثقافية حتى تتم تحتاج إلى استراتيجية ثقافة العمل الجمعي وديموقراطية التفكير الثقافي، حتى أنني أحسب أن الثقافة والديموقراطية لن يجتمعا في المنجز الثقافي السعودي.
ولذلك لا نندهش عندما تتعدد المخططات الفردية داخل التيار الفكري الواحد ليصبح لكل منها مركزية تختلف عن مركزية الآخر، ولعل كتاب حكاية الحداثة والضجيج الذي حدث حوله دليل ليس على تشظي مركزية المثقف الحداثي ومشروعه الذي لم يتم، بل ودليل على دكتاتورية المثقف الحداثي، وغياب الشراكة الثقافية داخل التيار الواحد، فما بالك لو كان الأمر داخل تيارين مختلفين، وكانت تلك الدكتاتورية من المساهمين في فشل ذلك الفكر على مستوى المنجز، فالذي يقتل التيار الفكري دكتاتورية أصحابه وصراعهم حول من يحكمه ويتحكم فيه..
وحتى داخل تيار الفكر المحافظ الأمر لا يختلف، وإن كان الفارق بينهما أن الفكر المحافظ داخله أكثر تماسكا ومركزية في مخططاته الفردية، ولعل مرجع ذلك ثبات القاعدة الفكرية له المنطلقة من الدين والتراث، وهذا بدوره لم يمنع حدوث بعض الانشقاقات داخله، لأن القاعدة الصحيحة للفكر ليست ضمانا كافيا لحماية مركزيته، فاحتمال الاختلاف بين المطبقين في ضوء تعدد المذاهب قائم، وهو مسوّغ لتشتت المركز، والفارق الثاني أن المتلقي السعودي يميل للمثقف المحافظ لأن خطابه أوضح وأيسر وبعيد عن الغموض والتعقيدات اللغوية والفلسفية، ويطمئن إلى القاعدة الفكرية التي ينطلق منها ذلك الفكر، خلاف توجسه من القاعدة التي ينطلق منها الفكر الحداثي وتشككه في نياتها وأسسها وغاياتها، وإن لم يكن للمتلقي أثر يُذكر في تحريك الصراع بين الأفكار الثقافية عندنا رغم محاولة استغلاله كورقة للضغط على العقل الجمعي أو جوكر لكسب اللعبة، وهذا لم يمنع من وجود بعض المواقف التطوعية من قبل المتلقي، لكنها لم تؤثر في بدء أو إنهاء أي أزمة ثقافية، لإحساسه بأن الصراع الثقافي لا يؤثر على يومه المعيشي، وهي سلبية بلا شك لها مبرراتها الكثيرة بدايتها موقف المثقف من المتلقي، فالمتلقي هو آخر ما يفكر فيه المثقف عندنا، فالمتلقي حسب ما يعتقده المثقف، هو إنسان ساذج وجاهل وغير مستوعب للتحرك النهضوي حوله وغير قادر على تفهم متطلبات الثقافة العولميّة، ولذلك فالمثقف أعطى لنفسه حق الإنابة عن المتلقي والتحدث بلسانه وبفكره، وصيا ومرجعا ومرشدا ثلاث صفات تميز الدكتاتوري عن غيره.
وقد يظن البعض أن المثقف المحافظ مُنجِز والأمر غير ذلك، ومرجع توهمنا هي النتيجة المتشابهة بين أفكار المثقف المحافظ وبين المنجَز الاجتماعي العام.
والأمر الثالث جدية إيمان ومسؤولية المثقف في التأثير على البدائل، فالمثقف لدينا لا يملك مشروعا ثقافيا إصلاحيا أو نهضويا، لديه مجرد أفكار استفزازية وليست ثورية تفتقد الإجرائية والتأثير، يراهن من خلالها على مقدار الإزاحة الناتجة عن ضجيج استفزازاته، والضجيج ليس صوتا ولا ناتج له.
والأمر الرابع طبيعة المجتمع الأبوي الذي تربينا فيه والذي ينص على تعميم الفكر الآحادي ومحاربة أي فكر يخرج عليه، وهو ما ورثه المثقف، فهو مروج للفكر الأبوي بصيغة وحجة مختلفتين لكن الجذر والغاية لا تختلفان، أو هكذا أظن.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244