وجدت (فرحة) تأخذ مسافة طويلة من التأمل، فهذا العنوان لا يليق إلا بمعرفة، ولست أعرف كيف خطرت ببالي في ومضة هذه المعرفة، تذكرت عشرات الدراسات الغربية عن العالم العربي، تذكرت كل المستشرقين الذين طافوا ببلادنا، وتجولوا في كل أصقاع العالم العربي، تذكرت طوابير الذاهبين إلى مطارات الغرب، تذكرت مئات من الأصدقاء الذين ذهبوا وحدانا وجماعات إلى أوربا وأمريكا، لننّهل من حضارته المعاصرة وأحدث مبتكراته العلمية، لنتعلم وننقل التجربة إلى بلادنا، قطار سريع من المعرفة يمر، ويبقى صديق اقتصادي عتيق درس الماجستير في اليابان، وعاد ليعمل في وسط كل العاملين بيننا، وقد درسوا غالبيتهم وتعلموا في جامعات الغرب، فعادوا محملين بالمعرفة مثله، وكأنهم يحملون البشارة من الغرب، ويظل صاحبي مختلفا صامتا، يحاور بهدوء وينقل ووجهة نظرة بمنتهى التواضع وبدون ضجيج.
يبدأ (نوبوأكي نوتو هارا) في كتابة المعنون ب(العرب - وجهة نظر يابانية)، إذا يأخذنا إلى خصائص وسمات في دراسته، تعكس واقع الشخصية العربية المطحونة، وتتلمس نشاط وسلوك وفاعلية الشعوب العربية، وكأنه يحصي أنفاسها وأحلامها وتطلعاتها، كما رصد إحباطها وخيبته المزمنة، فيقول: (أربعون عاماً وأنا أسافر إلى العواصم العربية، فأتعلم وأترجم وأتحدث إلى الناس، وأفتح عيني على مداهما، لأرى بعين المراقب المقارن، ولكن المراقب المحب الحريص، المراقب الذي أعطى الشخصية العربية حتى الآن أربعون عاماً من عمره).
أربعون عاماً مرت على علاقته بالثقافة العربية النشر العربي بصورة عامة، والرواية بشكل خاص إذ يحكي كاتبنا المصادفة، أو ربما إغواء المجهول الذي دعاهـ إلى المغامرة بدراسة الأدب العربي، بدلاً من الأدب الألماني وقضى أربع سنوات، يقرأ روايات نجيب محفوظ والشعر الجاهلي، لأن العرب المعاصرين ليس بينهم من يستحق الاهتمام، ويقدر الكاتب أن البترول وحدهـ لعب دوراً أساسياً في الاهتمام بالبلدان العربية، وحدد له خياره الذي صار فيما بعد هي حياته.
واليابان الدولة الآسيوية والصناعية العملاقة، نهضت من كبوتها لتكون واحدة من نمور العصر، لا شك أن لها تراثاً ككل الأمم، فإذا كانت قد عرفت البحث العلمي، فإن دراسة العلوم الإنسانية للشعوب، لقيت نفس الاهتمام، فالكاتب نتاج لهذا الهم مع حرية الاختيار، ولا بد أن نعرف في البداية، أن المجتمع الياباني يقترب بالفعل من المجتمع العربي، حيث نمط من القيم الاجتماعية، تحترم كما نحترم القيم العربية والإسلامية، ويأتي التأكيد على الانتماء والولاء للجماعات المتعددة وقيم الأسرة، وأثرها في التنشئة، بالرغم ما طرأ عليها من تغيرات نتيجة الاحتكاك بالحضارة الغربية، فإن التجربة اليابانية في تحولات الدولة اليابانية الحديثة وتكونها، تأثرت بعدد من العوامل اقتبست العديد من المؤسسات الغربية ومنها الأحزاب السياسية، وإن بقيت تلك الأحزاب ضعيفة حتى الحرب العالمية الثانية، أو في إطارات جماعات المصالح، وإن بقيت لها خصوصيتها حتى الآن وفي إطار الثقافة التقليدية اليابانية. ولعل النقطة الثانية والأهم هي ما يتعلق بالعامل الخارجي ودوره المركزي في التحول الديمقراطي. فقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية بواسطة الاحتلال المباشر، ثم لاحقاً الهيمنة السياسية والأمنية على اليابان من خلال معاهدة الدفاع الأمريكية - اليابانية، واستمرار الوجود العسكري في بعض الأجزاء اليابانية حتى اليوم.
أردت بهذه المقاربة البسيطة عن اليابان، أضع صوره عن حوار بين هذه العقلية القادمة من الشرق الأقصى، لتدخل في عالم مليء بالأساطير والكلام أكثر من الواقع، لتدخل إلى عالم الشرق الأوسط المليء والمبلي بالصراعات، فالكاتب الذي تنقل في مناطق عربية متنوعة، وخالط شرائح اجتماعية وثقافية متعددة، يعترف بأن من بين المثقفين العرب، وجد من أثر في وجدانه تأثيراً عميقاً، كما فعل الراحل الكبير (غسان كنفاني) الذي حفر في وجداني، كما حفر في وجدان هذا الياباني، وكانت رواية (عائد إلى حيفا) هي الخطوة الأولى لرواية عربية، يتم ترجمتها إلى اللغة اليابانية، وعرف كثير غيرهـ من المفكرين والروائيين العرب ترجم لهم، بالذات في مصر التي يزورها سنوياً كبادية الشام، وأظرف ما يذكر الكاتب سؤالاً، كثيراً ما واجهه في البلدان العربية، فالعرب ما انفكوا يسألونه السؤال الظريف في كل مرة: لقد ضربتكم الولايات المتحدة الأمريكية بالقنابل الذرية، ولماذا تتعاملون معها؟، ويقول إن المشكلة هي ليست في أن تكرهـ أمريكا أم لا؟، المشكلة في أن نعرف دورنا بصورة صحيحة، ثم أن نمارس نقداً ذاتياً بلا مجاملة لأنفسنا، لنختار الطريق الصحيح أما المشاعر وحدها، فإنها مسألة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلاً.
شعوب هذه البلدان العربية، وصفها مفكر عربي هو عبد الله القصيمي، ناقدًا وواصفاً في منتصف القرن الماضي ب(ظاهرة صوتية)، لكن. هذا الياباني يرى الناس صامتين لا يتحدثون، ولكننا نسمع صرخة من خلال ذلك الصمت الخانق، صرخة تخبر عن نفسها بوضوح وقوة، فغياب العدالة الاجتماعية، يعني غياب المبدأ الأساسي، الذي يعتمد عليه الناس وسيادة القانون، فعندما تغيب الديمقراطية ينتشر القمع، والقمع واقع لا يحتاج إلى برهان في البلاد العربية. ويرى أن هناك إفرازاً في المجتمعات العربية مشغول بفكرة النمط الواحد، ولذلك تتوحد آراؤهم وبيوتهم وملابسهم، فتذوب استقلالية الفرد، وتطغى مفاهيم تحمل قيماً عشائرية ومذهبية، فتذوب القيمة الإنسانية وقيمة الوعي، تجاه كل مفردات الحياة والوطن. حينما تغيب المعايير والنظام، وتطغو قيم القوة والجاه والمصالح، فعلى الأوطان السلام.
ويفرد الكاتب عناوين كثيرة حول ثقافة الآخر وثقافة الأنا، ويطرح كثيراً من الأسئلة والدهشة، إذ يغلب على سلوك الناس في الوطن العربي، عدم الشعور بالمسؤولية، تجاه المجتمع وتجاه الوطن، ولذلك كما يقول فقد رافقتني أسئلة بسيطة وصعبة، لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟؟، لماذا لا ينتقد العرب أخطاءهم؟؟، لماذا يكرر العرب الأخطاء نفسها؟؟، وكم يحتاج العرب من الوقت، لكي يستفيدوا من تجاربهم، ويصححوا أخطاءهم ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟؟
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«5212» ثم أرسلها إلى الكود 82244