كل ما هو شعبي ارتبط في أذهاننا جميعاً بعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيين والفلكلوريين، وحتى علماء الآثار: هؤلاء هم المختصون بدراسة موروثات الشعوب بشكل عام. ويطلق العاملون في هذا المضمار مصطلح الموروث الشعبي على الحصيلة الشعبية المتبقية من النشاطات الجماعية الماضية لأبناء منطقة ما.
ويقسمون هذه الحصيلة إلى ثلاث فئات:
أولاً: حصيلة نفعية أي مصنوعات الحرف التقليدية التي يستفيد منها الناس في ملبسهم ومأكلهم ومسكنهم، وثانياً: حصيلة ممارسة أي أساليب الحياة المتعارف عليها والتي تتمثل في العادات والتقاليد، وثالثاً: حصيلة قولية أي تعبير الإنسان لفظياً عن فكره وآماله وآلامه ومخاوفه وأوهامه-(والشعب في مجمله ما هو إلا إنسان يعايش بيئته فيفعل لها وينفعل بها وتؤثر به ويؤثر فيها، يزرع ويجني، ينسج ويلبس، يبني ويسكن ويصنع طعامه وأدواته بنفسه ويشكل حياته مع بني جنسه- يفرح ويحزن - ثم تشده في نهاية الأمر رغبة شديدة ليتحدث عما يجول بخاطره وما يكنه في نفسه من موضوعات تلتصق التصاقاً مباشراً بتفاصيل حياته اليومية- فيجلس في دائرة من أبناء القبيلة الواحدة على ضوء القمر أو المصباح أو الشموع- ليتبادل معهم مجموعة العطاءات القولية ثم يميل شيئاً فشيئاً إلى تقديمها في قوالب فنية خيالية رمزية ويعتمد على روايتها بقوة تأثير الإيصال التي تجعل منها شيئاً ممتعاً ومسلياً).
هذا ما تدل عليه كلمة شعبي إذاً، ولكن ماذا عن الأدب؟ الأدب هو أساس المعطى الثقافي في العلوم الإنسانية وهو نوع من المعرفة يعتمد التخييل والابتكار ليقدم واقعاً فنياً بتشويق أو تكثيف لتجربة إنسانية باجتزاء عناصرها من محيطها ثم إعادة توظيفها في إطار فني هادف ولو للإثارة ناشداً المتعة والفائدة من خلال أجناس وأنواع أدبية منها الشعر والقصة والرواية والمسرحية والمقالة والملحمة وفن السيرة- يذكر غبريالي في الموسوعة الإسلامية أن تاريخ كلمة أدب عند العرب يعكس تطور الثقافة العربية من أصولها الجاهلية إلى عصرنا الحالي، ويرى أنها ترادف كلمة سُنَة أي عادة أو سلوك موروث أو تقليدي، وأن أصل الكلمة مشتق من الفعل الثلاثي (دأب) أي تعود وقلّد.
على أن المعجمين العرب يرون أنها مشتقة من جذر (أدب) وتعني العجيب أو الطريف.
وقد ذكر بن فارس في كتابه مجمل اللغة أن الأدب هو الأمر العجب أو دعاء الناس إلى الطعام، وهو يرى أن اشتقاق الأدب من ذلك كأنه (أمر قد أجمع عليه وعلى استحسانه).
ويرى بطرس البستاني أن (الأدب هو الظرف وحسن التناول).
ثم مرت الكلمة بتحولات وتغييرات ربطتها بالأخلاق الرفيعة والسلوك المتحضر، لكنها احتفظت بهذا المعنى الأخلاقي بالإضافة إلى معناها الفكري الذي يشير إلى مجموعة المعارف التي تجعل الفرد متحضراً، أي أنها أصبحت مرتبطة بالإنسانيات التي لم تقتصر فقط على الإلمام بالشعر والنثر من حكم وأمثال وأيام العرب وإنما دخل في دائرة اهتماماتها الثقافات الخاصة والأجنبية بملاحمها وأساطيرها وتقاليد السرد فيها وقصصها الخيالية وفلسفتها.
والأدب في معناه التخصصي المحدد هو مجموعة الآثار النثرية والشعرية التي تمتاز بسمو الأسلوب وخلود الفكرة بما في ذلك الجوانب الفنية من الإبداع كالعناية بالنحو والألفاظ ودلالاتها.
وتأخذ الحصيلة القولية، وهي كما يبدو القاسم المشترك بين كلمة أدب وكلمة شعبي، أشكالاً متعددة ومتشعبة الأطراف من الشعر إلى الأمثال إلى الأساطير والأهازيج والحكايات والسيرة الشعبية والأغاني والمواويل والنوادر والطرف والنكت والفوازير والأقاصيص والأزجال وغير ذلك من الأجناس التي تنصرف إلى أدب العامة التقليدي الدارج والمتوارث جيلاً بعد جيل معبراً عن ذاتية الشعب.
أما الملاحم المشحونة بالأبطال وخوارقهم فتثري السير الشعبية التي تحتفي بعنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة وبني هلال والزير سالم والظاهر بيبرس وغيرهم ممن يواجهون تحديات ضخمة يتخطونها بأعجوبة وبمساعدة قوى غيبية تمدهم بالعون والمصادفات.
ولكي نصل إلى ماهية الأدب الشعبي يتوجب علينا أن نستقصي نقاط بداياته لنرى كيف جاء إلى الوجود وماذا أصبح على مر العصور.
ولو نظرنا في الأمر بتمعن لوجدنا أن للأدب الشعبي أكثر من ولادة، ونستطيع أن نسمي ولادته الأولى ولادة فعلية وهي التي أطلقته إلى حيز الوجود منذ وجد وعي الإنسان بذاته ومنذ اللحظة الأولى التي نمت فيها لديه الرغبة والتوق إلى التعبير بفن الكلام عن معاناته وهمومه وأفراحه وسعادته.
في جهده الدائم لفك طلاسم المجهول وتفسير ظواهر الكون من حوله والتي يعيش في دوامتها راح الإنسان يصوغ قوالبَ لفظية في هيئة إبداعات مختلفة تعبر عن همومه الروحية وعما يدور في مخيلته عن طبيعة الأمور الغيبية.
وظل خياله ينسج الحكايات والأغنيات التي صاحبت جميع مراحل تكوينه عبر صراعه الأول في سبيل البقاء، ثم صراعه الثاني في سبيل الاكتشاف والمعرفة، ثم صراعه الثالث والدائم في سبيل التقدم والتطور المستمرين.
وهكذا كان هذا المزيج الغريب من الموروث القولي والفكري المترابط الذي أفرزه مجتمع الصحراء ومجتمع الزراعة ومجتمع الرعي ومجتمع المدينة ومجتمع النهر ومجتمع البحر، حول كل ما يمس الإنسان وما يرتبط بحياته من مظاهر الطبيعة والحيوان والعلاقة بين السماء والأرض والكون بأكمله كما تفسرها كل بيئة من هذه البيئات الخاصة في ذاتها والمختلفة مع غيرها في تداخل إنساني متكامل.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244