- (الكتابة: مهنة التوحد والعزلة، الأسرة والأصدقاء.. والمجتمع هم العداء الطبيعيون للكاتب.. إنه بحاجة إلى أن يكون وحيداً.. لا يقطع عليه وحدته أي أحد)!!
* أما الشاعر اليماني المبدع د. عبدالعزيز المقالح.. فقال:
- (قيل: إن الشعر هو ابن الحب، والحزن، والموت.. وما دام هناك حب، وهناك حزن، وهناك موت.. فسيظل هناك شعر)!
* ومن كلمات ناسك الشخروب (ميخائيل نعيمه).. قوله:
- (تجوع النفس إلى الحب، كما تجوع العين إلى النور، والرئة إلى أوكسجين الهواء)!
* وقال (ابن رشيق) في (العمدة):
- (إنما سمي الشاعر: شاعراً، لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره.. فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى، ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيه من المعاني، أو نقص مما أطاله سواء من الألفاظ أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر.. كان اسم الشاعر عليه: مجازاً لا حقيقة)!
وهكذا (أتخيل) شاعرنا الذي أحدثكم عنه اليوم، وقد تزيا بصفة، أو بإحساس، أو بمعاناة، أو بتأمل.. مما صوره هؤلاء الذين استأنست بآرائهم هنا.. فإذا هو اليوم في منتجعه، أو توحده مع الوحدة: شاعر متأمل مستغرق!
ولقد كان الشاعر (محمد السليمان الشبل) منذ عرفناه، والتصقنا به: شاعراً متأملاً.. رقيق العبارة، حزين الصورة الشعرية.. رومانسياً في نجواه وعمقه الإنساني.
لكني أحسب أن تأمله من القديم قد تطور اليوم فصار: استغراقاً!
وأحسب الشاعر (الشبل) من الشعراء الذين تنطبق عليهم تلك العبارة التي وصف بها نفسه: الشاعر العراقي المغترب (سعدي يوسف) فقال:
* (أنا شخص متوحد، وأجد علاقتي مع الطبيعة والتاريخ أشد وثوقاً من علاقتي مع البشر في ما هو متاح!
هكذا أحب الشجرة في الطبيعة، لكني أحب الناس عبر النص)!!
ولقد كان وما زال توحد الشاعر (محمد السليمان الشبل) مع الطبيعة/ الشجرة، والتاريخ/ الجذور والهوية: أشد وثوقاً من علاقته مع البشر.. منذ رأيناه أول مرة، حتى تعرفنا عليه وجذبنا توحده المميز، وإلى أن (اختفى) عن أنظارنا وأسماعنا.. ولكنه بقي في قلوبنا جسراً وردياً يذكرنا بأحلامنا الصغيرة تلك يوم كنا في المدرسة: طلبة ناهدين نحو الغد، وكان هو ذلك الأستاذ الذي ساهم في الأخذ بيدنا إلى مشارف المستقبل!
والرحلة طويلة منذ آخر يوم كان لنا في (الثانوية العامة) بالمدرسة الرحمانية بمكة المكرمة.. وحتى هذه المرحلة من العمر: مرحلة التلفت نحو الأصداء، والارتقاب لما سنخلفه من أصداء، أو... لا شيء مما مضى، ومما بقي!!
***
مسيرة الشبل:
* ودعوني أعترف لكم - في البدء - أن ما دفعني إلى (تذكر) الكتابة عن هذا الشاعر المتأمل/ أستاذي، وصديق طموحي وأحلامي، ومهدهد مشاعري/ محمد السليمان الشبل: هي تلك اللفتة الجميلة الندية بالوفاء والحب من (ملحق التراث) بصحيفة المدينة المنورة، الذي بادر إلى إعداد ملف عن مسيرة (الشبل): مربياً، وشاعراً.. واستوقفني الصديق الحبيب النقي (د. إبراهيم الدعيلج) بمقاله الذي تحدث فيه عن: (الشبل.. النموذج الفريد في القيادة التربوية).. وقد حاول أن يحصي مناقب الشبل، ونجح في تكبير بعض المواقف التربوية التي امتاز بها (الشبل) في تعامله مع تلامذته.. فوجدت أن ما ذكره (د. الدعيلج) عن الأسلوب التربوي للمعلم الشبل، لم يطرأ عليه أي تبدل يعني الضعف، أو الاستعلاء بعد أن صار مديراً، وواحداً من رجالات التربية والتعليم.. فقد أشار إلى تعامل (الشبل) - وهو مدير - في الوقت الذي تتلمذ على يديه جيل (الدكتور الدعيلج).. وهي إشارات ذكرتني أيضاً بهذا الرجل الذي كان مدرساً لجيلنا في مواد دينية.. وقد تخرج ذلك العام من كلية الشريعة وعينته الوزارة مدرساً لجيلنا في (الرحمانية الثانوية)!
أذكر أول يوم دخل علينا في الفصل ليقدم نفسه لنا.. فقال:
- (اعتبروني أخاً أكبر لكل واحد منكم، وصديقاً تثقون فيه.. فأنا رجل تعلمت لأخدم وطني وأهلي بما حصلت عليه من علم.. فلا يتردد أي واحد فيكم عن طرح الأسئلة للمعرفة، وحتى عن ملاحقتي ليعرف ويتعلم).
وفي خلال شهور قصيرة.. أثمرت قيادة الشبل التربوية: غرس صداقات مع بعضنا ممن حرص أن يتقرب إليه ليستفيد منه.. وكنت واحداً من أولئك الذين شرفوا بصداقته المبكرة!
كان يحدثني - بعد إشباع فهمي بالمادة التي يدرسها - عن الشعر والشعراء.. وكان يقول لي مشجعاً وداعماً لما توقعه موهبة عندي:
- أنت تمتاز بروح الشاعر.. فيما تحاول أن تكتبه، وما تريد أن تقوله، وما تحرص أن يكون أحد صفات سلوكياتك.. فاحرص على النقاء في داخلك!
وكنت ألح عليه في إمتاعي بقصيدة جديدة له، يقرأها على مسمعي.. ولا يتردد، بل كان يستفزني أحياناً ويقول لي:
- مازلت فتى.. لكني أعرف إحساسك بالشعر.
* وكنت أقول له: خلاص يا أستاذ كبرنا.. ثانوية عامة، وبعدها الجامعة.. وهناك شعراء نبتوا في مرحلة أصغر من هذه.
وكان يضحك.. ويخصني بقراءة قصيدة جديدة!
***
* المكنون من القصائد:
* بعد أن صار (مديراً) للمدرسة الرحمانية المتوسطة.. وكنا - أنا وجيلي - قد تلقفتنا الحياة، ودرنا مع تروسها في طاحونتها.. ذهبت ذات مرة لزيارته وهو (مدير) للمدرسة الرحمانية، فهب من مقعده باشاً فرحاً يقول لي:
- إنت فين يا شيخ؟!
وعرفت منه أنه قرر - أخيراً - أن يجمع قصائده في ديوان يسميه (نداء السحر)، وكان ذلك في نهاية السبعينات الميلادية.
- وقلت له: اقتنعت أخيراً بضرورة بناء مسكن خاص لقصائدك؟!
* قال ضاحكاً: من كثرة إلحاحك علي.. هلكتني!
- قلت له ضاحكاً: يبدو أن (أستاذيتك) لنا في فترة من العمر، انعكست على واحد من تلامذتك بالأمس/ أصدقاؤك اليوم.. فصار مثلك متردداً في طبع ديوانه، أو في تجميع قصائده، وهو الشاعر، الدبلوماسي الآن والسفير (محمد صالح باخطمة).
* قال: تقصد إني (بخيت) عليه؟!
- قلت: أنت غرست في عقولنا العلم، ولكنك بذرت في نفوسنا ووجداننا: المزيد من الحب.. والحب لا تردد فيه أبداً!
وذكرته ببعض القصائد (الخاصة) التي كنت أختطف صورة منها، وما زلت احتفظ بها: ذكرى لذلك العبق الأجمل من العمر.. ولعلها مناسبة جميلة أن أفرج عن تلك القصائد وأنشرها.. ولا أعلم إن كان قد ضمنها ديوانه (نداء السحر) أم لا.. لأنني لم أطلع على ذلك الديوان، ولم أعثر على نسخة منه.
فدعونا نقرأ - متتالية - هذه القصائد:
* في قصيدة له عنوانها (ربيع الحب).. أبدع فقال:
مر في خاطري كحلم العذارى
أمل طاف بالفؤاد.. فطارا
حل في القلب من هواه ربيع
خر من حوله الشباب: سكارا
موكب ذاب في المشاعر لحنا
وسرى في شعابها: قيثارا
وجدت روحي الشجية فيه
لرضا النفس والفؤاد: شعارا
شرعة في الحياة قائدها
الحب.. غوى العقل في ذراها، وحارا
أنت يا ساكن الفؤاد: ملاك
ملأ الكون روعة، وازدهارا
روعة حولها استكان فؤادي
ومشى في ظلالها: مزمارا!
***
* والقصيدة الثانية، عنوانها (قال لي):
قال لي.. والشمس تنساب على كف الربى
وحنايا الأفق تفتر بأنسام الصبا
والشعاع الحلو في عيني يزهو طربا:
هل نسيت العهد.. هل ضاع كما ضعت هبا؟!
هاهنا كنت أغنيك، فيشجيك الغنا
يرقص الشوق بجفنيك، فتغني هاهنا
كنت ترنو كلما الأفق إلى النجم رنا
كلما غرد طير.. كلما قلب حنا
***
قلت: دعني من حديث الشوق.. لا أذكر شيا
إنني اليوم: خيال تاه في الكون شجيا
لا أرى إلا ظلاما دامساً في مقلتيا
كلما هدهدته.. طافت لياليه عليا
***
كل ما أحسسته بالأمس من دنياي ولى
تاركا للوتر الباكي رنيناً مضمحلا
وصدى لم ينفث القلب على نجواه ظلا
كل ما ألهمته بالأمس من شعري تولى
وخبا.. والنفس تقتات بأنات الوتر
وتهادى الليل.. والليل خيال وصور!
***
* ومن قصيدة له عنوانها (نجوى) قال فيها:
سعيد من يراك إلى الممات
ومن يحظى بقربك في الحياة
رأيت الحسن في عينيك: بدراً
تألق في سماء الكائنات
أعيذك بالصداقة أن تطيلي
على الهجر، أو تنسي شكاتي
دعينا تحت ظل العمر نحيا
كما تحيا البلابل في الفلاة
عشقتك عفة غمرت فؤادي
بفيض من ندى الذكريات
به تحيا المشاعر والأماني
وتورق فيه أسمى العاطفات
دعيني.. إن قربك في فؤادي
يقربني إلى أزكى الصفات
أرتله على قلبي: نشيداً
وأرسل فيه حرى أغنياتي!
***
* وتبقى هذه المقطوعة الغنائية.. بتصويرها السهل.. وقد سماها (غيرة):
أنت في فجر هواي
أمل.. حاز رضاي
منك استوحي نشيدي
وأغني لمناي
يعلم الله بأني
لست أرضى لسواي
نظرة منك لقلبي
سوف تمحو من شقاي
ملكت كل حياتي
وتمشت في حشاي
وأهاجت في فؤادي
لوعة تذكي جواي
سوف لن أنساك دوماً
يا حبيبي.. يا مناي
آه لو تعلم ما بي
فلقد جن هواي!!
***
* إلى اللقاء:
* من كلمات معلمي، أبي الروحي (محمد حسين زيدان) يرحمه الله:
- الذين يتسع صدرهم للحب، لا يتسع وجدانهم لما يكرب من آلام الآخرين، ولو كان هذا الألم وخزة من إبرة.. فالحب قد استغرق كل ما في وجدانهم ليفرحوا بالفرحة، فليس عندهم راحة في الأعصاب التي ترتاح إلى الترحة!!
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5717» ثم أرسلها إلى الكود 82244
- جدة
a_aljifri@hotmail.com